في اتجاه معاكس للتيار السائد ولكثير من الأصوات والطروحات والمطالبات الداعية إلى إحداث إصلاح ديمقراطي في العالم العربي، ينظر الكاتب والمفكر الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة بشك وارتياب إلى "الديمقراطية الجاهزة" أو "ديمقراطية البوارج" وكذلك إلى محاولات "إعادة إنتاج الديمقراطية"... ناعياً على نظريات التحول الديمقراطي السائدة حالياً بؤسها وافتقارها للحس الوطني وللوعي التاريخي بشروط التغير الاجتماعي وآلياته. ومن هذا المنطلق يقدم الدكتور بشارة في كتابه الأخير، وعنوانه "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، محاولة فكرية لبحث عوائق التحول الديمقراطي في الوطن العربي، وهي محاولة يقول في مقدمة الكتاب إنه يعكف على إنجازها منذ عدة أعوام، وإن جهده البحثي تعرض للانقطاع أكثر من مرة بسبب أزمات سياسية إقليمية أو نتيجة ملاحقته السياسية. وقد صدر الكتاب في 270 صفحة من القطع الكبير، وفي عشرة فصول ومقدمة وخاتمة، وهو ينهل من مصادر وحقول عدة؛ كالسوسيولوجيا والفلسفة والتاريخ والمناهج، كما يتجه مباشرة صوب الواقع العربي كمجال لاختبار النظرية الاجتماعية والسياسية. يقول بشارة إن خطاب الديمقراطية في العالم العربي، يتجاهل درب الآلام الذي مرت به الديمقراطية بعد أوهام البناء على السياسة الأميركية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، ولذلك فإن هذا الخطاب لم يتطرق إلى المقومات التاريخية والاجتماعية للديمقراطية، مثل نشوء الطبقة الوسطى الواسعة، وخلفية التنظيم الذاتي للمدينة الأوروبية، مقارنة بمدن عربية لم تعرف تاريخاً مشابهاً، علاوة على مستوى التعليم وحجم التخصصات العلمية وإجمالي الدخل الوطني والإنفاق العام ومعدل الصرف الحكومي... وغيرها من المقومات الاجتماعية لنشوء الديمقراطية. ويعتبر المؤلف الدعوة الديمقراطية بمثابة سند لحالة التقسيم والتجزئة الراهنة، فبعد أن تضعضعت مصادر شرعية الدول العربية القطرية على اختلافها، شكل مطلب الديمقراطية الشرعية الوحيدة البديلة الممكنة للدولة القطرية، لاسيما أن حدود هذه الدولة القطرية تشكل، فكرياً وسياسياً، حالة من "عدم الشرعية". لكن إضافة إلى أزمة الشرعية، سرعان ما بدأت فكرة تصدير واستيراد الديمقراطية تفقد مصداقيتها أيضاً، إذ تبين ارتباطها بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأجنبية، ولهذا لا يبدو أن نموذج "الديمقراطية العراقية" الحالي جذاباً أو ملهماً على أي نحو. وفي نظر الدكتور عزمي بشارة، فإن الدعوة الديمقراطية لا تستقيم إلا في إطار أمة ناجزة. والحال أن ما يميز وضع العرب اليوم هو تعرضهم للتفكيك والتخريب من قبل القوى الغربية. وهذا ما يستدعي الحديث عن وجود "مسألة عربية"، على غرار ما عرف خلال القرن التاسع عشر باسم المسألة الشرقية. والمقصود أن الأمة العربية ما تزال "أكبر قومية معاصرة لم تحظ بحق تقرير المصير، بالتحول إلى أمة ذات سيادة، ولم تحظ بفرصة الصراع بعد ذلك للتحول إلى أمة من المواطنين". ومن هنا فإن "المسألة العربية (تعني) في ما تعنيه أن نفس العناصر التي تمنع تحقق الأمة داخل الدولة القطرية وخارجها، هي العوامل التي تعيق التحول الديمقراطي"، وبالتالي ليست هناك أجندة ديمقراطية ممكنة. ويقول الكاتب في استنتاج ختامي: "لا يمكن تجاهل القومية حيث نشأت وتسود كقومية ثقافية تتوق للتحول إلى قومية سياسية وإلى دولة. وبناء المواطنة الحديثة أصلاً لا يتم إلا عبر تحول القومية نحو الأمة أو عبر بناء أمة المواطنين. ولا يمكن تجاهل العنصر الحداثي الكامن فيها والذي يهمش بنى ما قبل الدولة". ثم يضيف: "لم يعد بوسع القومية العربية أن تطبق ذاتها على أساس تجاهل الدول القائمة، ولذلك لا بد من أن تلتقي مع البرنامج الديمقراطي، لكي تنتصر وتنفي ذاتها في المواطنة الديمقراطية المشتركة في الأمة المدنية". وبذلك يفترض المؤلف، أولاً أن غياب مفهوم الأمة، بما تعنيه من سيادة ورأي عام حر ومستقل ومواطنة ووجود طبقة وسطى قوية... لا يترك أي فرصة لنشوء حركة ديمقراطية قادرة على تحقيق أهدافها. كما يفترض ثانياً أن أي حديث عن الديمقراطية في غياب الديمقراطيين، أي الافتقار إلى قوى ديمقراطية جماهيرية، لا يمكن إلا أن يحرف الرأي العام عن معركته الرئيسية ويشجع التدخلات الأجنبية أو يبررها أو يستدرجها. وهكذا بدل أن يقود العمل الديمقراطي، المعتمد على مجموعات صغيرة يائسة، إلى إصلاح أوضاع المجتمعات العربية، فإنه لا يعمل في الواقع إلا على تأخير حل المسألة القومية المصيرية. على كل حال يبلور بشارة في كتابه الحالي، رؤية مضادة لمشاريع دمقرطة العالم العربي، في صيغتها ذات الصلة بواشنطن، متهماً القوى والنخب الداعمة لتلك المشاريع بخدمة الأجندة الاستعمارية على حساب المطالب "التحررية" و"الاندماجية" لقوى الممانعة! وهو بذلك يضع عملية الخروج من طوق التبعية ومقاومة الاستعمار الجديد، كأولوية متقدمة على تحقيق المشروع الديمقراطي، بل هي الأساس والإطار الشرطي لقيامه. وهي كما نعلم صياغة جديدة لطروحة قديمة أجّلت الخيار الديمقراطي في انتظار الشرط الاجتماعي والتنموي، ثم علّقت هذا الأخير على الانتهاء من معركة التحرر الوطني وبناء الوحدة القومية... لكنها كما رأينا جميعاً، باتت دائرة الإخفاقات المقفلة على نفسها! محمد ولد المنى الكتاب: في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي المؤلف: د. عزمي بشارة الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية تاريخ النشر: 2007