لقد بلغ عدد القتلى من الجنود الأتراك هذا العام نحو 110 جنود لقوا مصرعهم خلال اشتباكات ومواجهات مسلحة دارت بينهم ومقاتلي "حزب العمال" الكردستاني الانفصالي الذي تعتقد الحكومة التركية أنه ينطلق لتنفيذ عملياته المعادية لها من قواعد آمنة له في إقليم كردستان بشمالي العراق. وترى حكومة أنقرة أن الولايات المتحدة لم تبذل من الجهد ما يذكر للانقضاض على مقاتلي هذا الحزب. وبما أن الحجم السكاني لتركيا هو 70 مليون نسمة، في حين يبلغ الحجم السكاني للولايات المتحدة الأميركية حوالي 300 مليون، فإن ترجمة هذا التفاوت إلى مقارنة بين عدد القتلى من الجانبين، تشير إلى أنه وكأن نحو 470 أميركياً قتلوا خلال العام نفسه. وفيما يبدو فقد عقدت السلطات التركية العزم على اجتياح الجزء الشمالي من العراق للانقضاض على من تسميهم بالإرهابيين، حتى وإن كانت هذه الخطوة لا تتعدى حدود إطفاء نيران الغضب الشعبي المتنامي على تكرار عمليات مقاتلي "حزب العمال" الكردستاني. وعليه فقد كان متوقعاً سعي رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان للحصول على تصريح برلماني بشن هجمات كهذه من البرلمان التركي. لكن فيما تصاعدت الهجمات التركية على شمالي العراق، بحيث اتسع نطاقها بمشاركة أعداد أكبر من الجنود، فإن من المؤكد أن يؤدي ذلك إلى نشوء أزمة دبلوماسية لا يعلم مداها أحد في علاقات أنقرة بكل من العراق وواشنطن من جهة، ومع الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. غير أن محللين أتراكا عالمين بدقائق الأمور وخفاياها، يرون أن هجمات كهذه سوف تكبد أنقرة خسائر فادحة، رغم أن لها علاقة كبيرة بالانفعالات العاطفية المتصلة بالنزاعات السياسية الداخلية التركية، بين الحزب الحاكم والعلمانيين، إلى جانب علاقتها بتنامي النزعة الوطنية المعادية للولايات المتحدة الأميركية في أوساط المجتمع التركي. أما فيما يتصل بعلاقات أنقرة بواشنطن، فمن المؤكد أنه سيطالها مزيدا من التوتر والدمار. ولعل جزءاً من هذا يعود إلى قناعة المسؤولين في أنقرة، بالمدى الذي ذهبت إليه واشنطن في توطيد علاقاتها بقادة إقليم كردستان العراقي، بما في ذلك احتمال موافقتها على خطة "التقسيم الناعم" للعراق. وهذا ما يزيد مخاوف أنقرة من شبه استقلال محتمل للإقليم نظراً لأن خطوة كهذه من شأنها أن تشعل مطالب الأقلية الكردية بالاستقلال الذاتي داخل تركيا نفسها. بل إن هناك من يعتقد أن لـ"حزب العمال" الكردستاني يداً طولى ومتعمدة في تصعيد التوتر في العلاقات الأميركية-التركية، والدفع بها في اتجاه الدخول في أزمة دبلوماسية جديدة. هذا وقد وصلت العلاقات بين البلدين سلفاً إلى أدنى وأضعف مستوياتها على الإطلاق، إثر الاجتياح الأميركي للعراق في صيف عام 2003، وهو الاجتياح الذي أبدت أنقرة معارضتها له. ثم تلا ذلك الآن تصويت لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس النواب الأميركي على الاعتراف بوقوع إبادة جماعية ضد الأقلية الأرمنية في تركيا. هذا وقد دعا القرار رقم 106، الصادر بأغلبية 27 على 21 صوتاً، إدارة الرئيس بوش إلى الإعلان عن القبول الرسمي لسياساتها الخارجية بوقوع حادثة الإبادة الجماعية لأقلية الأرمن من قبل الإمبراطورية العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى. ومن ناحيتها فقد أبدت أنقرة حساسية كبيرة إزاء المسألة الأرمنية هذه، ولطالما مارست الضغوط على الإدارة في سبيل الحيلولة دون إجراء التصويت المذكور داخل الكونجرس أصلاً. لكن وبالنظر إلى إصرار الأعضاء "الديمقراطيين" على الوفاء بالعهد الذي قطعوه لمؤيديهم من الناخبين الأرمن، فقد أكدت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، سماحها بإجراء تصويت عام من قبل المجلس كله على الواقعة المذكورة. وفيما لو حدث ذلك، فمن المتوقع أن تمنع أنقرة الجيش الأميركي من الاستمرار في استخدام قاعدة "انجرليك" التركية التي يتدفق عبرها ثلثا الإمدادات الحربية لقواته المرابطة في العراق. وبالقدر نفسه، يتوقع أن يواجه نشر القوات التركية في شمالي العراق بالكثير من الشجب والاستنكار من قبل بغداد، طالما أن اعتداءً كهذا سوف ينظر إليه على أنه تحد سافر لسلطات حكومة المالكي في الوقت الذي تبذل فيه كل ما بوسعها في سبيل إقناع جيرانها بأنها تحرز تقدماً ملموساً نحو بسط الأمن الداخلي، والتوصل إلى مصالحة سياسية وطنية. وتظل الاحتمالات مفتوحة وكبيرة جداً في ألا تقتصر مواجهة الاجتياح التركي لشمالي العراق على مقاتلي "حزب العمال" الكردستاني فحسب، وإنما ليس مستبعداً أن تبادر مليشيات "البشمرغة" الرسمية المعروفة بحسن تدريبها وتسليحها، إلى التصدي للقوات التركية الغازية أيضاً. ورغم عدم حماس السلطات التركية للدخول في نزاع بهذا الحجم في شمالي العراق، فإنها ربما لم تجد خياراً آخر بديلاً، في ظل تقاعس السلطات العراقية وحليفتها الولايات المتحدة الأميركية عن لجم اعتداءات مقاتلي "حزب العمال" الكردستاني المتكررة ضد الجيش التركي. أما على صعيد العلاقات التركية- الأوروبية، فمن المؤكد أن تبادر حكومات دول الاتحاد الأوروبي، والتي طالما بذل أردوغان من المساعي والجهود المتصلة عبر السنين لإقناعها بدعم قبول بلاده في عضوية الاتحاد الأوروبي، إلى شجب واستهجان أي توغل تركي في شمالي العراق. وأخذاً في الاعتبار للمعارضة القوية التي تبديها كل من فرنسا وألمانيا بصفة خاصة لانضمام تركيا لعضوية الاتحاد، فإن من شأن مواجهة عسكرية كهذه أن تحدث انتكاسة كبيرة في المساعي التركية هذه، إن لم تسفر عن تعليق عملية الانضمام كلها إلى أجل غير مسمى. غير أن ردة الفعل التركية المتوقعة إزاء ذلك الموقف، هي تعزيز تنامي النزعة الوطنية في صفوف الأتراك، وإعلاء صوت القائلين بأن الشروط المفروضة على تركيا من أجل الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، تفوق كثيراً المكاسب التي تجنيها من تلك العضوية. ولعل الوسيلة السريعة والمباشرة لدرء هذه الأزمات مجتمعة، أن تتراجع تركيا عن تصعيد عملياتها العسكرية في شمالي العراق.