بالنسبة إلى إيرلندي -أو مواطن أميركي من أصل إيرلندي- يعيش في الولايات المتحدة، فإن الحلم الوردي الذي غالباً ما يراوده يتمثل في الحصول على حفنة من تراب موطنه الأم الذي تغنّى به كبار الشعراء والأسلاف.. ألا يصلح هذا الحنين العجيب إلى تراب الآباء والأجداد، ليكون عنواناً في حد ذاته لجميع نوبات النوستالجيا (الحنين) الحادة التي عصفت وتعصف بملايين المهاجرين من ذوي الأصول الإيرلندية في الولايات المتحدة؟ لعل الأمر كذلك فعلاً، فالمكانة التي يحتلها تراب إيرلندا في مخيال المنتمين إليها في أميركا لا يدانيها تعلقهم بأي شيء آخر، بحيث لا تكاد تخلو أحاديثهم اليومية من ذكر لتراب الوطن "الغالي جداً" على قلوبهم، وإلى حد يلامس حدود الهوس والخيال، حتى أن البعض منهم لم يتوانَ، ذات مرة، عن شراء حفنات من ذلك التراب لنثرها على قبره بعد وفاته، أو حول منزله حتى يعبق المنزل "برائحة دبلن المميزة"، هكذا دفعة واحدة، وعلى رغم كل هذه المسافات والمحيطات الفاصلة بين أميركا وإيرلندا. وكما هي حال التجارة دائماً، فحيثما يكون ثمة طلب يكون هنالك عرض. وقد تعهدت، في هذا السياق، وكما يمكن أن نتوقع، شركة خاصة، بتصدير وتوفير التراب الإيرلندي لجميع الراغبين، وبأسعار "تشجيعية"، وهي تلاقي اليوم على عكس التوقعات، رواجاً واسعاً في السوق الأميركية خاصة. "مقابل رزمة من الدولارات، إليك حفنة من تراب الوطن أو تحديداً من تراب إيرلندا، قادمة إلى عتبة منزلك مباشرة ومزدانة حسب الطلب ببعض الحصى الإيرلندية أيضاً"، هكذا تعلن شركة التصدير الإيرلندية "The old Sod" أو "التراب القديم" لتسويق "ترابها"، والتي أسّسها رجلان من إيرلندا بغية تحقيق أحلام المهاجرين من الإيرلنديين من جهة، وتحقيق الربح الوفير من جهة ثانية، وهنا الجانب الأساسي في العملية، وكلمة السر فيها، بكل تأكيد. فخلال عام واحد تمكن الرجلان وأحدهما يدعى "بات بروك" من تصدير ما قيمته مليونا دولار أميركي من أكياس الأتربة التي تحمل اسم "التراب الإيرلندي الرسمي" إلى الولايات المتحدة. ومثل أية عملية تجارية أخرى تمكن صاحبا الشركة من خلق شبكات توزيع وترويج لبضاعتهما التي هبطت عليهما برزم الدولارات وأكوام وأكداس الثروة فجأة ودون سابق استعداد. ولعل وجه براعة هذين الإيرلنديين الوحيد هو أنهما أمسكا زمام المبادرة أصلاً بعد استشعارهما لوجود طلب على بضاعة متوافرة في موطنهما، حتى لو كانت هي تحديداً ما كان يضرب به المثال في الرخص وعدم الجاذبية التجارية، حين كان القدامى يتحدثون عن "رخص التراب". فقد أثبتا بعد نجاح شركتهما أن التراب لم تعد رخيصة، خاصة إذا كانت آتية من وهاد ومروج الريف الإيرلندي تحديداً. ويقول "بروك" وهو يبلغ من العمر 27 عاماً: "هناك قول مأثور قديم يشير إلى أن الإيرلنديين عندما ذهبوا إلى الولايات المتحدة أخذوا معهم كل شيء كالكنائس والمدارس وحتى موسيقاهم الخاصة، ولكنهم لم يتمكنوا من أخذ ترابهم معهم. لذلك نحن نعمل لردم هذه الفجوة عبر إرسال الأتربة الإيرلندية إليهم بأسعار معقولة ومغرية". وحسبما هو شائع حتى الآن، فإن أكياس التراب الإيرلندي التي تحمل صورة مزارع إيرلندي بملابس خضراء وقبعة وقد طبعت عليها عبارة: إيرلندي بحت، منتشرة جداً في صفوف الإيرلنديين الأميركيين الذين يشترونها ليتم نثرها على قبورهم بعد دفنهم، أو فوق أكفانهم وكأنهم في أحضان الوطن، حتى أن منظمي المآتم قد عمدوا إلى شراء واستقدام التراب الإيرلندي ليحققوا وصايا الكثير من زبائهم "الموتى". وللمثال فقط، فإن محامياً إيرلندياً يبلغ من العمر 87 عاماً يعيش في مانهاتن بمدينة نيويورك عمد إلى شراء تراب إيرلندي بما قيمته 100 ألف دولار ليتم دفنه فيه، بدل أن يدفن في "تراب أميركا". وليس هذا كل شيء، بل إن أميركياً- إيرلندياً آخر عمد إلى شراء أكوام من التراب الإيرلندي بقيمة 124 ألف دولار ليضعها في الحدائق المحيطة بمنزله في ولاية ماساشوستس. وهنا تحول الولع بتراب الموطن الأصلي من كونه نوستالجيا، أو تدبيراً جنائزياً، حتى وإن كان لا يخلو من طقسية معبرة عن التعلق بالوطن، ليصبح طريقة عيش. إنه، بمحاولته إحاطة بيته في ماساشوستس بتلال من الأرض الإيرلندية، يحاول نقل الوطن المادي، بترابه وتجسده الواقعي، من خانة الذكريات والحنين، إلى الواقع العياني المعيش على أرض الواقع. ويعلق "آدريان فانيللي" الباحث في الثقافة الإيرلندية وتجلياتها السياسية على هذه الظاهرة الجديدة بالقول: "لعل ما يجري أمامنا هو واحدة من أسخف وأحمق الظواهر على الإطلاق، وبالتأكيد لم أكن لأتخيّل أن ذلك محتمل". إلا أنه يستدرك فيضيف: "ولكن على الأقل فإنّ هذه الظاهرة لا تشكل استفزازاً لأحد، كما فعلت القبعات البلاستيكية والقمصان القطنية التي دُمغت بعبارة: قبّلني أنا إيرلندي!". ــــــــــــ "أورينت برس" - خاص