من الواضح أن هناك ظاهرة انتقالات أو هجرة بدأت تتشكل معالمها، خلال الآونة الأخيرة، من الوزارات الاتحادية إلى المؤسسات والهيئات المحلية، حيث تشير التقارير الإعلامية إلى وجود موجات استقالات انتابت أعراضها كلاً من وزارة العمل وتحديداً المفتشين الجدد بالوزارة، الذين تشير التقارير إلى أن نسبة المستقيلين منهم قد بلغت 15% في أبوظبي والعين و11% في دبي والإمارات الشمالية؛ أما في وزارة العدل فقد نقلت الصحف عن مسؤولي الوزارة قولهم إن فارق الرواتب دفع نحو 80% من أعوان القضاء في المحاكم الاتحادية إلى الاستقالة والعمل في الدوائر المحلية، ما أجبر بعض المحاكم على استخدام المراسلين للعمل مكانهم! هذا ناهيك عن الاستقالات في وزارة التربية والتعليم وغيرها من القطاعات الاتحادية، ما يرسم صورة متكاملة لوضع يستحق وقفة رسمية عاجلة. وزارة العمل من ناحيتها -وباعتبارها في صدارة المتأثرين بهذا الحراك- ترى أن ما يحدث هو نوع من التدوير الطبيعي لقوى العمل المواطنة، وهذا التوصيف ربما يحيد عن الحقيقة لأن سوق العمل لم تكن تشهد في السابق معدلات انتقال بهذه الوتيرة المتسارعة في فترة زمنية قصيرة نسبياً بين المؤسسات الحكومية؛ وبالتالي فإن هذه الانتقالات خارج نطاق المألوف والطبيعي، بل هي نتيجة مباشرة لفجوة واضحة في الأوضاع الوظيفية والمادية بين القطاعات الحكومية. البحث عن فرص عمل بعائد ومزايا وظيفية أفضل حق مشروع، ولكن إذا تحوّل الأمر إلى موجات متتالية من الانتقالات فإن من الضروري البحث في جذور المشكلة ومعالجتها، خصوصاً إذا تعلق الأمر بانتقالات ستؤثر حتماً في عمل قطاعات حيوية مثل التفتيش العمالي، الذي يعاني بالأساس نقصاً حاداً في أعداد المفتشين وفي وقت يتحدث فيه الجميع عن ضبط سوق العمل وتنظيمه، والاتجاه نحو مرحلة التخلص النهائي من المخالفات والمخالفين، فضلاً عن الطموح نحو إنشاء هيئة متخصصة للتفتيش العمالي، يفترض أن يكون جهاز التفتيش الحالي بالوزارة نواتها الرئيسية. خسائر هذا "التدوير" لا تقتصر على حدوث نقص في بعض القطاعات فقط، بل تتمثل أيضاً في خسارة الأجهزة الحكومية للوقت والجهد والأموال التي تنفق في برامج التدريب ناهيك عن إرباك خطط العمل والتأخر في تنفيذها، وبالتالي فإن هذا التدوير، وإن كان متوقعاً بسبب احتدام التنافسية بين قطاعات العمل وما يترتب على ذلك من سعي مشروع لدى الجميع في جذب الكفاءات واستقطاب الكوادر البشرية المؤهلة، يتطلب تحرّكاً حكومياً على المستوى الاتحادي من أجل التعجيل بإعادة ترتيب الأوراق وتعديل الأوضاع، لاسيما أن الشواهد تشير إلى أن هناك برنامجاً لإعادة هيكلة الرواتب والحوافز على المستوى الاتحادي، حيث أكد المهندس سلطان المنصوري، وزير تطوير القطاع الحكومي، مؤخراً، أن العام المقبل 2008 سيكون عام التركيز على تنمية الموارد البشرية في القطاع الاتحادي. "التنافسية" هي عنوان المرحلة الراهنة في سوق العمل المحلي، ولذا ربما تصبح الانتقالات هي الظاهرة الأبرز ولو خلال مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر بحسب المتغيّرات المؤثرة في الظاهرة، كما أن هذه الانتقالات لن تقتصر على اتجاه واحد بل يمكن أن نشهد انتقالات عكسية أو تدويراً متبادلاً بين القطاعات بعضها مع بعض، ولذا فإن من الضروري توفير متطلبات الاستقرار الوظيفي اللازم لتنفيذ الاستراتيجية الاتحادية الطموحة، انطلاقاً من أن الحفاظ على الكوادر البشرية المؤهلة يبقى خياراً أفضل من التسليم بحتمية التدوير.