الذنب هو ذنب الضواحي؛ فهي أصل كل المشاكل: الاختناقات المرورية، والأطفال البدناء، والتهميش الاجتماعي... وكذلك الاحتباس الحراري وارتفاع كلفة الطاقة أيضاً. اللافت أن هذه التهمة الأخيرة انتشرت انتشاراً واسعاً هذه الأيام على اعتبار أن الضواحي، بمنازلها الفسيحة وسيارات الدفع الرباعي التي يستخدمها سكانها، هي سبب ارتفاع فاتورة البنزين ووقود التدفئة، ومن ثم فهي مصدر لانبعاث الغازات التي تتسبب في ارتفاع حرارة كوكب الأرض، كما يزعم عدد من دعاة العيش في المدينة. ولهذا، فقد حان الوقت كي نغادر الضواحي ونعود إلى المدن على اعتبار أن نيويورك وبوسطن وشيكاغو على سبيل المثال هي "نماذج بيئية"، حسب تعبير عمدة "ميلووكي" السابق جون نوركيست الذي يرأس حاليا "منظمة عمران حضري جديد". لكن قبل أن تقوم ببيع منزلك في الضواحي وتدفع دولارات كثيرة من أجل شقة مريحة في المدينة، لنلق أولاً نظرة على التفوق أو الامتياز البيئي للمدن الكبيرة. إليكم فكرة تُنسب عادة إلى الدوريات الأكاديمية والمجلات العلمية، ومفادها أنه يمكن للمناطق الحضرية الكثيفة أن تساهم في احترار عام يتعدى حدودها المادية. فقد وجدت الدراسات التي شملت عدداً من المدن في العالم –بكين وروما ولندن وطوكيو ولوس أنجلوس وغيرها- أن تركزات الخرسانة والإسفلت والفولاذ والزجاج تساهم في ما يُعرف بظاهرة "جزر السخونة" بشكل أكبر مقارنة مع المناطق السكنية الواقعة في الضواحي حيث الكثافة منخفضة والأشجار منتشرة عادة. ومثلما أبرز ذلك مقال في عدد أكتوبر 2006 من مجلة "نيو ساينتيست"، فإن "المدن يمكن أن تكون أكثر سخونة بدرجتين خلال النهار، وبما قد يصل إلى ست درجات أثناء الليل". كما وثقت دراسات حديثة في أستراليا واليونان، إضافة إلى دراسات في عدد من مدن الولايات المتحدة، هذا الفرق بين المدن ذات الكثافة الكبيرة والمناطق المحيطة بها. وهذا أمر بالغ الأهمية على اعتبار أننا نتعاطى مع ما قد يتضح أنها فترة سخونة طويلة. وإذا كانت جزر السخونة الحضرية غير مسؤولة مباشرة عن ارتفاع حرارة الأرض، فالثابت هو أن لها عواقب بيئية واجتماعية واقتصادية وصحية كبيرة تتعدى حدود المدن. وفي هذا الإطار، أشارت دراسة في أثينا نشرت هذا العام في دورية "كلايمتيك تشينج" إلى أن المساحة الإيكولوجية لواحدة من جزر السخونة الحضرية هي أكبر بمرة ونصف إلى مرتين من الحدود الإدارية للمدينة. وعلاوة على ذلك، فإن جزر السخونة الحضرية تزيد الحاجة إلى التكييف الهوائي، والذي يؤثر تأثيراً كبيراً على استهلاك الطاقة في مدننا. ولما كانت أنظمة التكييف الهوائي نفسها تتسبب في ارتفاع الحرارة، فإن الأمر ينتج حلقة مفرغة. ويذهب البعض إلى أن الكلفة السنوية لاستهلاك الطاقة الناتجة عن واحدة من جزر السخونة الحضرية يمكن أن تفوق مليار دولار. لا نقصد بذلك القول إنه لا يمكن جعل البنايات الكبيرة أكثر فعالية من حيث استهلاك الطاقة عبر استعمال تقنيات جديدة، مثل التصاميم عالية التكنولوجيا، ومواد البناء الخاصة من أجل تقليص استهلاك الطاقة، والأسطح الخضراء، إلخ. غير أنه من بين المشاكل التي ستُطرح في هذه الحالة حقيقةُ أن خلق مساحات خضراء بالبنايات الكبيرة سيؤدي إلى ارتفاع ثمنها، وهو ما سيجعلها في غير متناول الأسر التي تنتمي إلى الطبقتين المتوسطة والعاملة. بالمقابل، تعد مناطق الكثافة المنخفضة مناسبةً لطرق تقليص الحرارة، وهي طرق أقل غلاءً وأكثر صداقة للبيئة. إذ يمكن تقليص استهلاك الطاقة لمنزل من طابقين أو ثلاثة طوابق في الضواحي باستعمال نوافذ مزدوجة الزجاج، وهو أمر يمكن أن يساهم فيه الظل مساهمة كبيرة؛ إذ تستطيع شجرة القيقب على سبيل المثال أن تلطف حرارة منزل يتألف من طابقين، إلا أنها لا تستطيع إحداث المفعول نفسه بالنسبة لعمارة سكنية من عشرة طوابق. اللافت أن نسبة الأشخاص الذين اختاروا العيش في المدن لم تتغير كثيراً على مدى السنوات الأربعين الماضية، حيث تراوحت بين 10 و15 في المئة. ومنذ عام 2000، تركز أزيد من 90 في المئة من النمو الحضري في الضواحي. وعليه، فلا ينبغي القضاء على الضواحي. وبدلاً من التحامل على الضواحي ومحاولة القضاء عليها، لنا أن نتساءل: لماذا لا ننشئ ضواحي أفضل وأكثر خضرة، ونعمل على تعزيز وتوسيع المساحات الخضراء في الضواحي الموجودة حالياً؟ الواقع أن من بين المقاربات التي يمكن تبنيها من أجل هذا الغرض، هي ما يسميه الكاتب والي سيمباب "التوسع الذكي للمدن". ويتطلب هذا النوع من التطوير سلسلة من الخطوات من قبيل: تقليص حجم استهلاك السكان من الوقود عبر استعمال سيارات أفضل من حيث فعالية الاستهلاك، وعدم تركيز أماكن العمل في المدن، وتشجيع النمو المتواصل في العمل انطلاقاً من البيت، وذلك بموازاة السهر على حماية الفضاءات المفتوحة. إن إرغام الأميركيين على نمط عيشٍ حضري شديد الكثافة لا يروق سوى لأقلية قليلة منهم، ليس هو الطريقة المثلى لمعالجة المشاكل المتعلقة بنفاد الطاقة والموارد أو ارتفاع حرارة الأرض. وبدلاً من ذلك، ينبغي علينا أن نتخذ خطوات تدريجية وحكيمة وواقعية من أجل الرقي بالضواحي حيث يختار معظمنا العيش والعمل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جويل كوتكين زميل جامعة تشابمان ومؤلف كتاب "المدينة: تاريخ عام" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ علي موداريس مدير معهد "بات براون للشؤون العامة" بجامعة كاليفورنيا ستيت ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"