نصف مليون جندي مسلح، يقابلهم نصف مليون راهب أعزل متلفع بثوب أصفر، وصلعة تلمع مثل صلعة سقراط تحت ضوء الشمس والحقيقة. هذا هو الوضع الحالي من المواجهة المدنية ضد العسكر... مثل عصفور مصوب على رأسه مسدس؟ فمن أين تأتي هذه القوة في المواجهة؟ لقد أجابت المناضلة السلامية "أوانج ساسو كايا" على سؤال طرح عليها من الإعلام الغربي: من أين لك كل هذه الطاقة في مقاومة العسكر؟ فأجابت بأنها تستمد هذه الطاقة من مصدر الطاقة الذي لا ينضب... من الله الخالق الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا تعب ولا نصب، وليس لطاقته من نفاد. لقد حيل بينها وبين رؤية زوجها وهو يحتضر بالسرطان، كما حرمت من أولادها، ووضعت تحت الإقامة الجبرية منذ أربع سنوات، ومع المواجهات الجديدة في خريف 2007، تم اقتيادها إلى مراكز مخابرات العسكر... لكن لا ضير فهي تكرر قصة السحرة مع فرعون. وهو أسلوب دشنه الأنبياء، وعلى طريقهم "غاندي" و"عبد الغفور خان" منذ أمد بعيد في اقتلاع شجرة الديكتاتورية. وفي الوقت الذي دلفت الهند إلى الديمقراطية إشعاعاً من روح غاندي، فهي تتربع مكانها تحت الشمس، وتتحول ببطء إلى دولة ذات قرار ومعين، فإن تراث "جناح" مايزال تحت جناح العسكر. وبكل أسف فإن الضمير العربي مصاب بلوثة العنف، توطنت فيه، وليس من سبيل بينه وبين هذا النور في التغيير، فاحتكم الحاكم والمحكوم إلى السيف، فهو أصدق أنباء من الكتب، في حده الحد بين الجد واللعب، كما قال جدنا الشاعر منذ أيام الحمدانيين. وفي العالم حالياً تنشأ مؤسسات لتشجيع الديمقراطية، وينتظم جنود اللاعنف من جورجيا وصربيا والجبل الأسود إلى الجبل الأحمر في الصين... من أجل اقتلاع أشجار الديكتاتورية. في الواقع إن هذا الأسلوب غريب علينا، وفي يوم كنت في مؤتمر في عمان؛ قام رجل من الاتجاه الإسلامي، فقال عني احذروا هذا الشيطان فنبيه غاندي من الهند، وقرآنه آيات منسوخات بآية السيف! ومن العجيب الغريب أن ست آيات من سورة المائدة، ومن أواخر ما نزل، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، تقول إن هناك أسلوباً جديداً للمقاومة وفض النزاعات، في قصة ولدي آدم، هو ما يفعله الرهبان البوذيون في ميانمار حالياً وهم يستقبلون الرصاص بصدورهم، ولا يعتبرون أنفسهم أنهم يذبحون مثل الخرفان. فالموت في النهاية واحد، حق على الخرفان وبني آدم. وهو نفس الأسلوب الذي استعمله الخميني في الثورة الإيرانية فنجح، ولم يتفطن لهذا أحد، لا الخميني نفسه، ولا "الإخوان المسلمون"، ولا "حزب التحرير"، ولا "حزب الله"، ولا شيخ الجامع الأزهر، ولا يزيديو جبل سنجا، وشيعة كربلاء، ولا علماء القيروان والبطحاء والجبل الأخضر... بل تورط الخميني في الحرب، وخسر خسراناً مبيناً، حتى جاءت أميركا مبتهجة بالفتح العظيم، فتخلصت من الخميني، ومن صدام حسين... وكل وعاظ وخطباء مساجد العالم الإسلامي يصعدون المنبر بالسيف الخشبي، ويمرون على هذه الآيات وهم عنها معرضون: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق، إذ قربا قرباناً فتُقُبِّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين". وفي آيتين متتابعتين يذكر القرآن قصة القاتل أنه تحول من "الخاسرين" إلى "النادمين"؛ فلم يعد القاتل بطلاً بل مهزوما أسِفاً، ولم يبق القاتل على موقفه، بل بكى وتاب وندم وأناب. لقد تقبل سقراط الموت من دون أن يدافع عن نفسه، وهو ما فعله الأنبياء أيضاً، حتى وصل يسوع إلى حافة المصلبة، وهو يقول اغفر لهم فهم لا يعرفون ما يفعلون. إن القاتل لا يبقى بطلاً، بل يتحول إلى مجرم، لا يجد الراحة إلا في التوبة وإعلان الندم والدخول في مذهب المقتول، أو كما قالت الآية "فأصبح من النادمين". لكن بين المسلمين وهذا الفهم مسافة ثلاث سنوات ضوئية... وفي لقاء عمان، التفت إليّ "القبيسي" و"العوا"، وهما من رموز الفكر الإسلامي؛ فقالا إنه تفسير لم يقل به أحد من المفسرين. قلت لهما ما قاله فرعون لموسى، "فما بال القرون الأولى؟"، أي أن من سبقك لم يكن يدرك ما أدركته أنت، ولتعلمن نبأه بعد حين...