يعيش العالم اليوم طفرة من التحولات الكبرى التي تسارعت وتيرتها خلال العقود القليلة الماضية. فقد أدى انهيار الشيوعية إلى ترسيخ الديمقراطيات القائمة على اقتصاد السوق في وسط أوروبا وشرقها، كما أن بعض الاقتصادات التي كانت تُصنَّف على أنها هامشية في السابق، سواء في دول الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا أصبحت اليوم لاعباً أساسياً على الصعيد الدولي، فضلاً عن التحولات الداخلية المرتبطة بعملية التحديث والتمدن التي شهدتها مجتمعاتها على نحو مطرد. وبالطبع تضاف إلى ذلك تكنولوجيا المعلومات التي حولت العالم إلى قرية صغيرة بحيث أصبح التواصل فورياً والسفر ميسراً للجميع. ومع كل هذه التغيرات ارتفعت نسبة العمالة المهاجرة وانتقال رؤوس الأموال عبر الحدود الوطنية. ونتيجة لهذه التحولات المتسارعة أيضاً شهد العالم انفجاراً غير مسبوق في الحرية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، حيث غدا من السهل الانتقال، في العديد من مناطق العالم، بالخدمات والبضائع. وباتت الأفكار أكثر قدرة على الانتقال دون حواجز من خلال الإنترنت والأقمار الاصطناعية، بالإضافة إلى الفرص الجديدة التي تتيحها الحركية الاقتصادية والاجتماعية. بيد أن تلك التحولات لم تأتِ بدون ثمن، بل تمخضت عن نتائج لم تكن متوقعة في الكثير من الأحيان. فقد أدى التوسع الكبير في الحريات والحركية التي رافقتها إلى ممارسة ضغوط على الثقافات التقليدية للشعوب وحياتها الاجتماعية ليُستبدل المألوف والاعتيادي بانعدام الأمان والشك في قدرة المستقبل على حمل ما هو جيد. ففي المجتمعات التي تعرف وتيرة متسارعة من التحديث يتزايد القلق من تراجع القيم الاجتماعية، حيث تتم مساءلة التقاليد وتحدِّيها، كما بدأت تتراخى الأواصر التي كانت تربط أفراد المجتمعات. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة مثلاً إلى الانقسامات الجديدة التي ظهرت في دول المعسكر الشرقي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فضلاً عن المشاكل الاجتماعية المرتبطة بالبطالة والفوارق الطبقية الفاحشة التي رافقت عملية الانتقال من الاقتصاد الماركسي إلى عكسه الرأسمالي. ولا ننسى أيضاً التداعيات السلبية المترتبة على ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال، حيث تراكمت المعلومات والأخبار إلى حد التخمة ولم يعد ممكناً التمييز بين الغث والسمين. وهناك أيضاً خطر تحويل وسائل الإعلام إلى أداة للدعاية والتحكم في تدفق المعلومات وتوجيهها من قبل المسيطرين على الآلة الإعلامية، فضلاً عن استغلالها لأغراض الإثارة وتسويق المنتجات التجارية. لكن بالإضافة إلى تلك التحولات الناشئة عن اتساع رقعة الحريات برزت أنواع مختلفة من الأصوليات في جميع أنحاء العالم. فقد اتجه البعض، بعد الشعور بانعدام الأمان في الحاضر واهتزاز الثقة بالمستقبل، إلى الأيديولوجيات التي تعِد باستعادة الثقة والاستقرار. وفي ظل هذه الأيديولوجيات يتم النظر إلى الماضي من زاوية رومانسية، كما يتم التعامل مع التقاليد في صورتها المطلقة التي لا تقبل التأويل، أو دراستها ضمن سياق تاريخي محدد باعتبارها استجابة منطقية لشروط موضوعية لم تعد قائمة في الحاضر. وهنا يمكن الإشارة مثلاً إلى صعود الحركات المعادية للأجانب في بعض الأجزاء من أوروبا، كما يمكن تلمس تنامي الأصولية الدينية في الولايات المتحدة. ولا نستثني في هذا المقام الحركات الدينية التي برزت خلال العقود الأخيرة في العالم الإسلامي، ونظيرتها الأصولية في المجتمع الهندوسي. وباختصار لا يمكن النظر إلى عصرنا الحالي على أنه زمن الفرص المتاحة أمام الجميع بفضل الانفتاح الاقتصادي غير المسبوق من دون الالتفات إلى الأخطار والتهديدات المرافقة لتلك الفرص. فما نحتاجه على وجه السرعة، ونحن ننظر إلى حجم الحريات الكبيرة المتوفرة لدينا اليوم، هو جرعة قوية من المسؤولية. ولا يعني ذلك فقط التقييم الجدي للتغييرات التي نعيشها، بل أيضاً إدراك التداعيات الناتجة عنها والسعي إلى التعاطي معها. وفي هذا الإطار وانطلاقاً من الحاجة المُلحة لبدء تقييم تشارك فيه الثقافات المختلفة ويؤكد على ضرورة التحلي بالمسؤولية للتعامل مع هذا الانفجار في الحريات الذي يشهده العالم، انعقد مؤتمر مهم في العاصمة التشيكية براغ خلال الأسبوع الأخير. وكانت الدورة الحادية عشرة "لمنتدى 2000" الذي ينظمه "فاكلاف هافيل"، أول رئيس للجمهورية التشيكية بعد سقوط النظام الشيوعي، ويجمع ثلة من القادة السياسيين والمفكرين من جميع أنحاء العالم، فرصة لتدارس التحديات العالمية في ضوء المتغيرات الجديدة. ولعل أهم ما أنجره المؤتمر حتى الآن هو استمرار انعقاده بالدرجة الأولى، وابتعاده عن الحلول السهلة والتركيز بدلاً من ذلك على إجراء تقييمات رصينة للمشاكل التي نواجهها، فاتحاً بذلك المجال أمام بزوغ أفكار جديدة لمعالجة التحديات المستجدة. وقد أظهر المنتدى أيضاً قدرتنا على العمل المشترك ووعينا الجماعي بالتداعيات المرافقة للتغيرات الكبرى التي يحفل بها العالم اليوم، فضلاً عن الحاجة إلى فهم الآخر والتعاطي معه دون أحكام جاهزة أو مُسبقة. والأهم من ذلك هي فرصة الاستماع إلى بعضنا بعضاً وإيجاد السبل الكفيلة بالتحكم في التحولات العالمية وضبط تداعياتها السلبية حتى لا تبقى مجتمعاتنا سادرة في سلبيتها وعاجزة عن مواجهة التحديات، ولكي تبقى ممسكة بزمام المبادرة على نحو تستطيع معه تحمل مسؤوليتها التاريخية في صياغة ملامح المستقبل، مستقبلنا جميعاً.