لم يعد الاستحقاق الديمقراطي مطروحاً. هو مبدئياً من "الحق" إذا وجد، ومن الدستور إذا وجد وإذا احترم، لكنه على ما يبدو مجرد وجهة نظر، قد تصح وقد لا تصح، حسب الظروف، ووفقاً للأهواء. عربياً، دخل الأمر في خانة الحالات الصعبة. العالم ينظر إلينا كما إلى مريض ميؤوس منه. لكن الدول صاحبة النفوذ والمصالح عندنا ليست متشائمة إلى هذا الحد. إنها تعتبر فقط أنها أخطأت على الأرجح عندما راحت تكثف الضغوط من أجل الإصلاح والدمقرطة، ثم تبين لها أن الوضع الذي كان ولا يزال قائماً لم يكن سيئاً كما تصورت أو كما صور لها غداة الغضب الذي انفجر في 11/9 عام 2001. فذاك الإرهاب لم تضعه الأنظمة والحكومات، أما الأنظمة والحكومات المرشحة للانبثاق من أي عملية ديمقراطية فتنذر بتصنيع "إرهابات" أشد دهاء وتعصباً. كم انتخابات تلزم لاستخلاص الدروس، من الجزائر 1992 إلى فلسطين 2006 مروراً بالعراق 2005؟ فلا داعي للإصرار ولا للتجريب. العلة هي الشعوب، إذاً، لا في الأنظمة والحكومات. مسألة الديمقراطية عادت بقوة إلى الواجهة في الأسابيع الأخيرة، لكن بعيداً عن العالم العربي. فجأة انتعشت حركات التبشير الأميركية مستعيدة محاضراتها عن الدمقرطة. أنظروا إلى بورما، العلة هنا ليست الشعب ولا حتى رجال الدين، وإنما هذه الطغمة العسكرية الحاكمة منذ خمسة وأربعين عاماً والمتمسكة بتخلفها ودمويتها بلا أي ضمير، وإذ كادت تخطئ عام 1990 حين سمحت بإجراء انتخابات إلا أنها سرعان ما صححت الخطأ معتبرة نتائج الاقتراع كأن لم تكن، وبدل أن يدخل المعارضون المنتخبون إلى البرلمان زجوا في السجون. في بورما حالة لا علاقة لها بالقرن الواحد والعشرين، أو بأي زمن غير العصر اللاإنساني. وميزة هذه الحالة - ولكل قاعدة شواذ أن الولايات المتحدة لا تعتبر مسؤولة عنها، هنا تتشارك الصين، وروسيا إلى حد ما، في رعاية هذه الطغمة. والدولتان ليستا من النماذج التي يعتمد عليها لبناء الديمقراطيات. العملاق الاقتصادي الذي غدته الصين يشكو - وسيشكو لاحقاً - من مضاعفات محاولته إثبات أن أرقام النمو المندفعة صعوداً لن تعني بالضرورة أن البلاد والعباد متلاقيان في عافية متكاملة. فالصين تمارس على الدول المجاورة القواعد الخرقاء ذاتها التي تطبقها الولايات المتحدة حيثما تمكنت من فرض هيمنتها. والنتيجة هي نفسها في الحالتين: مصالح الكبار لا تتأمن إلا بفضل الحكومات، وعلى حساب كل بلد مبتلى وشعبه. وعندما تكون الخيرات وفيرة يمكن تمرير بعضه لإنعاش الشعب وإخماد نيران نقمته ومعاناته، أما إذا كان الفقر هو الثروة الوحيدة كما في بورما فلا لغة تسود غير لغة القمع، حتى لو كانت هناك منظمات لحقوق الإنسان تعد الجثث وتسجل الوقائع وتعلن الإدانات. فمثل ذلك يحصل منذ عقود في فلسطين، لكن كلمة السر عند الأميركيين والأوروبيين كانت ولا تزال أن إسرائيل يجب أن تحظى بكل رعاية وحماية، عسكرية وسياسية ومعنوية، حتى لو احتقرت كل القوانين الدولية، وحتى لو لم يعد العرب قادرين على محاربتها، فبعدما تخلوا عن الحرب لابد أن يتخلوا أيضاً عن اعتبار أن لهم حقوقاً ازاء إسرائيل. في زيارتها الأخيرة لموسكو، رأت "كوندوليزا رايس" أن ديمقراطية روسيا تعيش أياماً حالكة، إلى حد أنها طلبت لقاءات مع سياسيين غير "بوتينيين" ومثقفين ورجال أعمال وإعلام، كما فعلت مراراً في مصر مثلاً، لتناقش معهم سبل الإصلاح السياسي وآفاقه، مع اقتراب نهاية عهد بوتين، وتدحرج العلاقة الأميركية - الروسية من تعقيد إلى تعقيد، إلى حد استعادة أجواء الحرب الباردة وبعض مصطلحاتها، لا تعتبر واشنطن أن ثمة مشكلة في سياساتها وإما في انزلاق النظام "البوتيني" إلى دكتاتورية مقنعة. هذه الأشكالية صحيحة، إذ أن بوتين حافظ على مظاهر الديمقراطية لكنه صادر جوهرها، خصوصاً من خلال التحكم بالعملية الاقتصادية، وبالأخص بالسيطرة الترهيبية للقضاء، واستخدام ذكي وموضعي للقمع، بل القمع الشديد، وأخيراً بالاستناد إلى عمليات غامضة كاغتيال الكاتبة والصحافية "أنا بوليتيكوفسكايا" الذي شكل إنذاراً عارياً وتهديداً حاسماً للحريات. لم يتمكن بوتين من استعادة ممارسات وتقاليد العهد البائد إلا في ظل التدليل الذي حظي به تحت شعار مشاركته في "الحرب على الإرهاب" واستفادته منها ليجعل من الشيشان أرضاً محروقة فأعطى روسيا والروس فكرة عما يمكن أن يذهب إليه إرهاب الدولة. ويبدو أن هذه الحرب على الإرهاب لا تنفك تخلف عاهات آخذة في النفاذ في أسس التفكير في الديمقراطية وممارستها، إذ أن الكاتبة الأميركية "نعومي وولف" أجرت محاكمة دقيقة لسياسة الرئيس جورج بوش، مستنتجة أن هناك عشر خطوات تجعل من أي رئيس ديمقراطي دكتاتوراً إذا أٍقدم عليها (ادعاء وجود خطر خارجي داهم، إنشاء معسكر اعتقال، استخدام المرتزقة، تشديد الرقابة والتنصت، مضايقة منظمات المجتمع المدني، الاعتقالات العشوائية، مضايقة الأفراد، التحكم بالإعلام، اعتبار كل انشقاق خيانة، التحايل على القوانين). اللائحة قد تطول بفضل خبرة الدكتاتوريات القديمة أو المتجددة، وهي تشي بأن ثمة تراجعاً فادحاً قد حصل، فليس المناخ وحده يشهد تغيرات تفتك بالطبيعة التي وهبها الإنسان، وإنما العقل السياسي يشهد أيضاً انهيارات لا تنفك تفتك بالإنسانية.