تركيا بنموذجها الديمقراطي العلماني المسلم وبجغرافيتها بين الشرق والغرب وبطموحها نحو التقدم والصعود، حليفٌ يعتدُّ به في منطقة الشرق الأوسط للولايات المتحدة، فعلى مدى أكثر من خمسين عاماً كانت تركيا حاضرة كجدار لمنع دخول الشيوعية في الحرب الباردة كما كانت في حربي الخليج الأولى والثانية محوراً مهماً للتحالف والصدام، ولذلك فإن تركيا ذات أهمية استراتيجية بالغة لكل من أميركا وأوروبا والحلف ٍٍالأطلسي ودول الشرق الأوسط، إلا أنها بدأت تبتعد عن التحالف مع السياسات الأميركية منذ غزو العراق. وواقع الحال أن علاقات واشنطن وأنقرة ليست على ما يرام تجاه أمور عدة مثل وضع العراق وبروز إقليم كردستان العراق والقضية القبرصية ومحور (إيران وسوريا وحماس)، إلى جانب وجود نظرة تركية غير راضية عن أميركا التي تجدها متخاذلة في التحرك دبلوماسياً من أجل خلق أجواء إيجابية على الجانب الأوروبي تجاه تركيا في سعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. فالأبواب شبه المغلقة بدأت مع الحرب على العراق التي خرج من قمقمها المارد الكردي وشجّعته على الحصول على فيدرالية عراقية بدأت تتسع منذ سقوط بغداد وإن كانت بدايتها الفعلية غداةَ تحرير الكويت، وعودة حزب "العمّال" الكردي إلى القيام بأعمال إرهابية ضد تركيا من داخل العراق. وعلى المحور الكردي تلتقي مصلحة تركيا القومية مع إيران وسوريا، فمع إيران تنطوي علاقتها على مصالح اقتصادية وتجارية كنقل الطاقة إلى أوروبا والتجارة والاستثمار، وفي هذه العلاقة ترتاب الولايات المتحدة من إيران وطموحها النووي والعسكري وعملها على مد نفوذها في الشرق الأوسط والخليج خاصةً، رغم أنه لا وفاق بين أنقرة وطهران في الأيديولوجيا وفي آسيا الوسطى والفعالية في المنطقة سوى أنه تجمعهما مصالح آنية. وثمة أحداث وقعت بشأن العلاقات الأميركية التركية مؤخراً من مطالبة الولايات المتحدة دولاً، وعلى رأسها تركيا بمزيد من التضحيات، والمقصود هو التضحية بعلاقاتها مع إيران، وفي جانب آخر صوتت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي مؤخراً على مشروع يؤكد أن ما وقع للأرمن على يد الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى كان إبادة جماعية، وأن على السياسة الأميركية الاعتراف بذلك اعترافاً تاماً، وخاصة في سياستها حيال تركيا، فكان التصويت بأغلبية 27 صوتاً مقابل 21، على أن يطرح للتصويت في المجلس بحلول منتصف نوفمبر المقبل. أما رد تركيا فقد تمثل في استنكار من خلال قول الرئيس عبدالله جول، إن مشروع القرار غير مقبول وليس له أي أساس ولا يحترم الأتراك. وفي خضم هذه المستجدات جاء تصريح وزير الخارجية التركية في سوريا ليحمل أبعادا مهمة، حيث جاء فيه أن تركيا لن تستخدم أراضيها للعدوان على سوريا، كما عبر عن إمكانية لعب دور وسيط ايجابي في الدفع بمساعي السلام في الصراع العربي- الإسرائيلي، ولكن الزيارة توحي بأن لا تحالف سيكون بين أنقرة وواشنطن على دمشق وطهران، فهذه الزيارة تأتي كرد سياسي واستراتيجي على دعاوى قرار الكونجرس حول قضية الأرمن وما حدث في الحرب العالمية الأولى والوضع الكردي بكردستان العراق. وفي الفترة الحالية تتحرك المؤسسة العسكرية التركية إلى داخل كردستان العراق لتؤكد أنقرة بأن الأمن والمصالح والجغرافية التركية واستقرار العراق والمنطقة لا يمكن له أن يكون بغير أخذ دور تركيا في السياسة الدولية والإقليمية من أجل الحفاظ على أمنها ومصالحها الخاصة، رغم تحذير واشنطن التي تعتبر أنقرة حليفاً مهماً في حلف شمال الأطلسي وفي استقرار المنطقة من خطورة القيام بأي توغل في شمال العراق لمطاردة مسلحي حزب "العمال الكردستاني". وهذا التحذير قابلته الحكومة التركية بالتحذير من عواقب تمرير مشروع قانون في الكونجرس الأميركي الذي يدين العثمانيين بارتكاب مجازر ضد الأرمن. وخوفاً على تأثر العلاقات بين البلدين، حذر الرئيس جورج بوش الكونجرس من مغبة التصويت على مشروع القانون الذي يحمل أنقرة مسؤولية "مذابح" ارتكبت بحق الأرمن، وأكدت الإدارة الأميركية أن مثل هذا القرار ستكون له تبعات سلبية وسيؤثر على مكانة واشنطن وسياساتها في الشرق الأوسط وعلى الحرب على الإرهاب، كما تعتقد الخارجية الأميركية بأن هناك علاقات جيدة بين أرمينيا وتركيا تستطيع تجاوز الخلفيات التاريخية السيئة. ويَلقى مشروع الإدانة دعماً ديمقراطياً كبيراً في الكونجرس لاسيما من جانب رئيسة مجلس النواب "نانسي بيلوسي"، التي تضم دائرتها الانتخابية في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا عدداً كبيراً من الجالية الأرمينية التي تمارس ضغوطاً لتبني القرار. ورغم أن مشروع القرار المطروح على "لجنة العلاقات الخارجية" بمجلس النواب غير ملزم للإدارة، فإن البيت الأبيض يوليه أهمية كبيرة نظراً لاحتمالات أن يؤدي تمريره إلى تقليص التعاون التركي، والذي تعتبر واشنطن في أمس الحاجة إليه بل وتطويره في ظل الوضع الراهن. فتوتر العلاقة بين واشنطن وأنقرة واختلاف المصالح سيعمل لصالح المحور الإيراني- السوري، وبالتالي لا يخدم وضع لبنان الداخلي والقضية الفلسطينية بمحاورها "فتح وحماس" كما لا يقدم طوق نجاة لوضع واشنطن في المنطقة التي أصبحت أكثر انقساماً وتكتلاً لمحاور إقليمية ودولية متداخلة ومتنافسة ومتصادمة. فلولا الخلفية التاريخية المتصارعة بين موسكو وأنقرة، لكانت هذه الأحداث سبباً في تلاقي روسي- تركي يطوِّق المنطقة بشكل كبير، ولكن التاريخ وصفحاته تمنع ذلك.. فها هو الطربوش العثماني يتقدم اليوم في شمال العراق لتخرج التحركات الأميركية السياسية لوقف ذلك...لوقف تحرُّك لسان حاله يقول إن المنطقة ما زالت بيد دولها القوية والفعالة وربما راود العثمانيون حلمُ الحصول على نفط كركوك ومنع المحور الكردي الفعال أن يهز الدولة التركية، وإبلاغ محللي السياسات والدول الكبرى بأنه كما يتحرك الدب الروسي ويغامر وكما يقامرُ المحافظون الإيرانيون بنفوذهم وأهدافهم فإن الطربوش العثماني يتطلع إلى قمم شمال العراق بحثاً عن أمنه القومي ومصالحه.