في البازار -أو السوق بمعنى آخر– هناك عادةً غش كثير وتدليس أكثر. وبازار الأزمنة والأمكنة وما يحيطهما من طقوس، يتلاعب فيه البائعون في مشرقنا كما يرغبون. فالقريب عندهم بعيد في الحقيقة، ودقيقة الانتظار كما يريدونه منك تعني ساعة أو بعضاً من يوم، والنكسة كما يدعون هي هزيمة في الواقع، و(عنترة بن شداد) في قصص الأولين تعجز قنبلة هيروشيما في إيذاء مستهدفيها قياساً لما يفعله هو في الأعداء! .. وهكذا حال رمضان معنا في بازار هذه الأيام. الشهر الكريم شهر عبادة وصبر ومرْحمة وكرم يأخذ بيد الفقراء والمعوزين، وتقشف على النفس، لكن في بازار الأمكنة والأزمنة العربية تم تغيير وجه أفضل ثلاثين يوماً في السنة ليظهر -في السنوات الأخيرة- على منتظريه بوجه يختلف عما كان.. ويجب أن يكون. الأجر في العبادة من خلال قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته، إضافة إلى صلوات التراويح والتهجد وتحرِّي ليلة القدر فيه، تحولت كلها إلى منافسة شرسة وقوية (جذابة) لاختطاف قلوب الصائمين وعقولهم.. ولـِمَ لا؟! فهناك مسلسلات فكاهية ودرامية وتاريخية، هناك لقاءات مع الفنانين والفنانات، ويمكن تناول الفطور والسحور والتخت الشرقي يعزف أعذب الألحان للصائمين والمُمسكين! الخيم الرمضانية فيها ما لذ وطاب من الشراب والأكل ومذاقات الأرجيلة.. شيء واحد يغيب عنها.. رمضان بمعناه الروحي ومقصده الديني وتفرده الأخلاقي! ولأن أهل البازار عادةً يريدون مضاعفة المكاسب في كل يومٍ ولحظة من بيعهم، يقدم أصحاب سوق رمضان البرامج التي تعتمد على الإبهار المقدم معه حملة إعلانية تُخبر بأن الملايين في انتظار المتسابقين الذين ليس عليهم سوى رفع سماعة الهاتف والقيام بمحاولة الإجابة، وفي آخر الشهر تكتنـز خزائن قنوات برامج المسابقات بالملايين مقابل دفع (زكاة) صغيرة لهذا المتسابق أو ذاك طوال الشهر. النميمة الرياضية وإثارة المشاحنات بين من يُطلق عليهم أصحاب (الروح الرياضية) لا لذة لهما إلا تحت سقف خيم البرامج الرياضية.. الرمضانية. هناك قنوات في البازار الرمضاني تتخصص في تسهيل أمور الطبخ على سيدات المنازل، فتقدم "الشيف" فلان أو علان، والذي يقدم وصفات إفطار الصائمين في ذالكم اليوم أو سحورهم، ولا بأس أن تشارك فنانة بمساندة زميل من أهل الفن في التذكير بمقادير الطبق الرمضاني والسعرات الحرارية التي توجد في مكوناته. الصائم لابد أن يتسلَّى في نهاره الطويل والحار، لذا تذكره وسائل إعلام البازار بتاريخ صناعة السينما وقديم الأفلام والحياة الأسطورية للممثلين الأوائل! ولأن من حقائق البازار أن تتواجد من قبيل الخدعة السلع الجيدة -مهما كانت- في الأعلى ورديئها في الأسفل، كذلك سلوكيات الصائمين في رمضان. الصبر والأناة والتعفف عن فحش الكلام والفعل، تنقلب وهي صفات كان يجب أن يتحلى بها الـمُمسك عن اللغو، تنقلب إلى ثورة وغضب على الآخرين في الشارع والعمل وأماكن التبضع.. بحجة الصوم والحرمان! التبذير الذي يذكرنا بأثره السيئ كما عناه شهر التراحم يحوله البازار الرمضاني في أيامنا هذه إلى فوضى في الإسراف طعاماً كان أو شراباً، أما اقتناء جديد الكماليات في رمضان فقصة أخرى يطول شرحها وسردها. دائماً ما يُسمع في الأسواق كلام مُعادٌ مُمل بين البائعين المنتظرين للزبائن، والأمر نفسه يحدث في البازار الإعلامي الرمضاني؛ خذ مثلاً: أحاديث كمال الشهر ونُقصانه وضرورة الأخذ بالرؤية الفلكية أو البصرية لإثبات دخول الشهر أو خروجه، وبين تلك المساجلات المعتادة يقرأ ويسمع ويشاهد كمٌ هائل من دعوات بتوحيد يوم الصيام والإفطار بين الدول الإسلامية، وكأن هذه الدول لم تبقَ لديها مشاكل التوحيد إلا هذه العقبة! في الأسواق يُلاحظ أن المقاهي والمطاعم تحتل أماكن (استراتيجية)، ويعطيها هذا التميز كونها محطة استراحة بين ممر تبضع وآخر؛ هذه الوسيلة الإغرائية لها أشباه عند أهل (البازار الرمضاني) في أيامنا هذه، فما أن يُقبل العيد وتنصرم أيام الشهر الفضيل، حتى تبدأ دعايات انتقاء أيام المتعة بعد أيام الحرمان الرمضاني، فهناك حفلة طربية لا تُعوض تقام في هذا المكان، وهناك نشاطات ترفيهية في مكان آخر.. كل ذلك تعويضاً عن سويعات الصيام النهاري، وعندما يتردد زبون (البازار الرمضاني) في الإقدام على بدايات تعقب نهايات يحسبها استثنائية، يُذكر بأن للجسد حقوقاً كما للنفس أيضاً. وبين الفينة والأخرى يلجأ البائعون في الأسواق إلى وسائل جذب غرائبية، كأن ينشروا بين المتسوقين مقولات مجهولة أو معلومة عن جودة بضائع وحاجيات هذا المتجر أو ذاك، وفي البازار الإعلامي الرمضاني، تجد بين فيضان المسلسلات وبرامج التسلية والمسابقات، مسطحات يحسب الخائف من الغرق أنها المنجاة، لكنها في الواقع أرض رخوة لا يمكن الوثوق بصلابتها.. كيف؟ لا مانع لدى أصحاب الجنون الإعلامي الترفيهي –الرمضاني- من ساعة (إيمانية) مُجزأة تُحشر بين الاكتساح الترويحي الذي لا ينتهي، في هذه الساعة يمكن مشاهدة أو سماع دعاء أو فتاوى أو نصائح دينية، وبهذا يعطي ما لله -وهو قليل في ظنهم- لله، وما لقيصر لقيصر وهو كثير عبر أفعالهم! وبالتأكيد ليس كل من مر عليهم رمضان يفعلون ما نفعله نحن مرتادو (بازار رمضان).. هؤلاء الأخيار عرفوا معنى رمضان الديني والدنيوي ولاذوا بمحرابه فابتعدوا عن ذاك السوق العجيب.. وإن إلى حين!