تتناسل المؤتمرات واللقاءات وتتواصل المحادثات حول سلام الشرق الأوسط. ومنذ مؤتمر مدريد وأحاديث السلام لم تتوقف سواء في محادثات ثنائية أو رباعية أو متعددة الأقطاب. ومن مسار القضية الفلسطينية تناسلت المسارات، وانتُزعت القضية الفلسطينية من الحضن العربي، ليتقاتل فوقها الأخوة الأعداء "حماس" و"فتح" وما بينهما. اليوم وبعد مضي مايزيد على ستة عشر عاماً من مؤتمر مدريد ماذا بقي من أحاديث السلام؟ وأي مفهوم للسلام سيُناقش في المؤتمر الدولي للسلام المزمع انعقاده الشهر المقبل في ميريلاند بالولايات المتحدة: المفهوم الإسرائيلي أم الفلسطيني أم مفهوم الشرعية الدولية؟ وهل صحيح أن الإدارة الأميركية تبحث عن إنجاز تاريخي في الشرق الأوسط تداري به اخفاقها المرير في العراق؟ وهل تكرر إدارة الرئيس الاميركي بوش أخطاء الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إبان بحثه عن انجاز تاريخي في "كامب ديفيد 2" بأي ثمن،مما أدى إلى تفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وبدء الانتفاضة الفلسطينية الثانية إثر انهيار المفاوضات؟ وهل يعني مؤتمر السلام فيما يعنيه عربياً تقديم المزيد والمزيد من التنازلات لإسرائيل؟ مضى عقد من أحاديث السلام والاستسلام في الشرق الأوسط، ومنذ اتفاقيات أوسلو وحتى مفاوضات كامب ديفيد2 والسلام لايعني الا التنازلات الفلسطينية والعربية، فالمفاوضات والمقترحات والمماطلات الإسرائيلية والأميركية والدولية صيغ مختلفة لكنها واحدة في جوهرها، متعددة في أشكالها وصياغاتها، وتمثل في مجملها وجهة النظر الإسرائيلية المدعومة من أميركا في شكل الحل النهائي، فهل من جديد ينتظر في مؤتمر السلام القادم؟ تدخل إسرائيل المفاوضات وهي في موضع القوة، مطمئنة كل الاطمئنان للدعم الأميركي فحتى لو لم تحقق شيئاً، فهي لن تخسر أبداً، في المقابل فإن السلطة الفلسطينية في وضع صعب خاصة وأنها مطالبة بالتنازلات عن مرتكزات القضية الفلسطينية: حق العودة أو الاستناد إلى قرارات الشرعية الدولية والحدود النهائية، ووضع مدينة القدس، والمستوطنات الإسرائيلية، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. بعد أن ضاع مبدأ الأرض مقابل السلام، وأصبح الفلسطينيون والعرب عموماً لا يملكون حتى ترف خيار السلام مقابل السلام، تجتر الأطراف العربية الحديث عن مؤتمر السلام كمخرج للجمود السياسي وللتوتر العسكري في الأوضاع الفلسطينية، فعاد البحث عن خريطة طريق تهدي لتدويل القضية بدعم من اللجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط. وحتى لا نغرق في سوداوية الواقع العربي والخزي الفلسطيني، نحتاج لإلقاء نظرة متأنية من خلال التصريحات والبحث فيما بين أسطر التصريحات عن أي سلام منتظر من مؤتمر السلام القادم على جناح وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس"، التي لا تغيب عن المنطقة إلا وتعود إليها بلقاءات ومفاوضات ومقترحات. ومع كل ذلك لا تزال الرؤية ضبابية حول أهداف المؤتمر وأجندته ونقاط الاتفاق بين أطرافه على الرغم من اقتراب موعد انعقاده. فبعد سلسلة من اللقاءات بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي أولمرت بهدف التوصل إلى إطار للقضايا التي ستطرح في المؤتمر، سعى الفلسطينيون للحديث عن مسودة اتفاق إسرائيلي- فلسطيني فيما يفاوض الاسرائيليون حول صيغة عائمة لإعلان مبادئ غير محدد، لايتضمن أي أفكار يمكن أن تتناول القضايا الأساسية بالتفصيل أو تحدد مواعيد نهائية، وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي قد صرح أن مؤتمر السلام في الشرق الأوسط، الذي سينعقد تحت رعاية أميركية، لن يكون بديلاً لإجراء مفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين. وظهر من البداية أن إسرائيل تعمل على تخفيض سقف التوقعات من المؤتمر بحجة أن الوضع الداخلي الإسرائيلي غير مهيأ وأن المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين هي الخيار العملي، إذ يمكن الخوض في مفاوضات سياسية مكثفة لاحقاً حول المواضيع الجوهرية بما فيها الحدود، واللاجئون، والقدس، وغيرها. من الواضح أن الحكومة الفلسطينية تراهن على مؤتمر السلام لدعم موقفها الداخلي، إذ تتخذ حركة المقاومة الإسلامية "حماس" موقفاً حاداً من مؤتمر السلام. وسعياً لتسويق المؤتمر داخلياً، طالب الرئيس الفلسطيني بانسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي التي احتلتها في حرب يونيو 1967. وقد حدد الفلسطينيون مطالبهم بأن تضم دولتهم كل مساحة قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وحقيقة يواجه الطرح الفلسطيني لصيغة الحل النهائي صعوبات على الأرض في ظل حقائق الاحتلال لذا، فرهان الرئيس الفلسطيني على الحل القادم من مؤتمر السلام يعد مخاطرة سياسية، إنْ لم يكن انتحاراً سياسياً في ضوء التسريبات التي تحدثت عن تنازلات فلسطينية مزمعة في قضايا رئيسية كالحدود وحق العودة، ولا ننسى أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وعلى الرغم من الضغوطات المفروضة علية إبان مفاوضات كامب ديفيد 2 ومقترحات الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون لاتفاق السلام الفلسطيني - الإسرائيلي التي تقدم بها قبل مغادرته البيت الأبيض والتي سعى خلالها لإغلاق الملف الإسرائيلي- الفلسطيني، واشترط خلالها إما قبول المقترحات أو رفضها حيث أنها غير قابلة للتفاوض، فقبولها يعني إنهاء الصراع وانتهاء مطالب أي من الجانبين تجاه الآخر. إلا أن هذه المقترحات اصطدمت بالموقف الفلسطيني الرافض لقبول صيغة التسوية النهائية المطروحة لما تحمله من تنازلات عن ثوابت الحركة الفلسطينية كحق العودة ووضع القدس، وعندما وصلت المفاوضات إلى المناطق الأخطر، أعلن عرفات بأنه لا يملك تفويضاً يخوله التنازل في موضوع القدس والمقدسات. التفاوض بشكله الحالي لن يفضي إلى سلام حقيقي في ظل اختلال موازين القوى، ونقول تفاؤلاً بأن مؤتمر السلام الدولي القادم وُلد ميتاً، ولن يخرج عن نطاق لقاء العلاقات العامة، ولن يرقى إلى مستوى وأهمية القضايا التي سيناقشها لسبب رئيسي هو عدم جدية إسرائيل في السلام، وقد بدأت بالمراوغة السياسية والالتفاف حول القضايا المهمة والخلافية وصولاً إلى تمييع المؤتمر حول قضايا عامة، أما إدارة الرئيس الأميركي بوش، وبعد سنوات من الدعم اللامحدود للسياسة الإسرائيلية، فإنها تسعى اليوم إلى تفعيل طرح فكرة الدولتين وسط تطمينات للأطراف الفلسطينية والعربية حول جدية المساعي الأميركية، إلا أن انطلاق قطار السلام من ميريلاند مشكوك فيه. وبالنسبة للطرف الفلسطيني ورغم المخاطر السياسية، فإن الانقياد لقطار السلام من دون مكابح هو عملية انتحار سياسي لاتُحمد عقباها، خاصة وأن الصيغة الفضفاضة التي تحدث عنها أولمرت لن تؤدي الا لتمييع المؤتمر فمن دون تحديد واضح للقضايا المزمع مناقشتها، ومن دون تحديد جدول زمني وبضمانات دولية للحل الدائم تصبح المشاركة في مؤتمر السلام مأزقاً للسلام.