لا شك أن مسلسل الملك فاروق قد فتح شهية المعرفة التاريخية لدى قطاعات واسعة من المشاهدين العرب، خاصة أن المراجعة العملية التي قام بها د. يونان لبيب رزق قد أضفت طابع الأصالة التاريخية على الوقائع التي يقدمها المسلسل. إن أحد الأسئلة الكبرى التي يطرحها المسلسل في أذهان المشاهدين يتصل بالدوافع التي أدت ببعض ضباط الجيش المصري في الأربعينيات إلى تكوين تنظيمات ثورية انتهت إلى الإطاحة بالملك عام 1952.السؤال ينبثق نتيجة لما يلاحظه المشاهد للمسلسل من ارتفاع شعبية الملك الشاب بين الجماهير وضباط الجيش في أعقاب حادث 4 فبراير 1945، عندما حاصرت دبابات الاحتلال البريطاني قصر عبادين لتفرض على الملك تعيين حكومة وفدية برئاسة الزعيم مصطفى النحاس معادية لهتلر. لقد اعتبر ضباط الجيش هذا الحادث اعتداء على السيادة الوطنية وتزايد تعاطفهم مع الملك الذي كان معروفاً بكراهية الاحتلال وانحيازه إلى هتلر عدو بريطانيا اللدود تطبيقاً للمثل الشعبي "عدو عدوي صديقي". أنني أقدم هنا للقارئ العربي نتيجة بحثي في كتب التاريخ التي تسجل تطورات تلك الفترة، وأنني أعتقد أن أحد أهم الكتب التي تقدم كشفاً حقيقياً صادقاً وموثقاً عن موقف ضباط الجيش الثوريين من الملك فاروق هو الكتاب الوثائقي الذي أصدره مؤخراً أحد أعضاء اللجنة التأسيسية لتنظيم "ضباط الجيش"، والذي تكون في سلاح الفرسان أي المدرعات عام 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية. في كتابه المعنون "ثورة الجيش المصري.. وثائق الإعداد والتمهيد 1945-1952"، يقول المؤلف الذي أصبح سفيراً بعد الثورة في وزارة الخارجية المصرية، وهو الضابط جمال الدين منصور، إن تنظيم "ضباط الجيش" ظل يطبع المنشورات ويقوم بتوزيعها مستقلاً حتى عام 1950 عندما اتصل به خالد محيى الدين ليبلغ قادته أن هناك تنظيماً آخر للضباط يعمل في نفس الاتجاه برئاسة جمال عبدالناصر، وأنه يعرض دمج التنظيمين معاً لتوحيد الجهود، وعندما تم الاندماج أطلقت تسمية الضباط الأحرار على التنظيمين المندمجين. أهم ما في الكتاب يتمثل في نصوص المنشورات التي أصدرها التنظيم، فهي تكشف عن القضايا التي كانت تحتل الأولوية في أذهان الضباط وتمثل دافعاً لهم للتمرد. في مقدمة هذه القضايا تأتي أوضاع الجيش المصري المتدهورة حيث كان خاضعاً للبعثة البريطانية ويعاني كما تكشف المنشورات من ضعف التدريب والتسليح والتنظم، وكذلك تأتي مشكلة الفجوة الاجتماعية في البلاد وتفشي الفقر والبؤس. إن الأمر الذي يستحق أن نتوقف عنده في نصوص هذه المنشورات هو طبيعة الخطاب الموجه من الضباط الثائرين إلى الملك، وما إذا كان خطاباً رافضاً للملك ولعرشه أم خطاباً يعول على الملك في تحقيق الإصلاح المنشود. إن المنشورات الصادرة عام 1947 تكشف لنا عن نبرة احترام وإجلال، يكنها الضباط للملك من ناحية ولهجة مناشدة له أن يقوم بالدور الإصلاحي في القضايا التي يطرحها الضباط، فعندما يخاطب الضباط في المنشور السري الملك قائلين على نحو مطرد: مولاي إن هذا الجيش المخلص لعرشكم المتفاني في الولاء لقائده الأعلى واثق من عطفكم وعدلكم ووطنيتكم.. فإن الناتج الذي يخرج به القارئ للمنشورات، هو أن الضباط لم يكونوا موقف عداء للملك ولكنهم كانوا يعولون عليه في تحقيق الإصلاحات الاجتماعية والعسكرية المطلوبة. مؤلف الكتاب الذي يضع نصوص المنشورات بين أيدينا في أمانة واضحة يقول، إن هذه النبرة من الاحترام للملك كان هدفها تجنب فتح معركتين في وقت واحد. فلقد كان الأهم عند الضباط هو الإطاحة برئيس أركان الجيش الفريق عطا الله عام 1947 والذي كان قد نجح في الكشف عن بعض ضباط التنظيم وقدمهم للمحاكمة باعتبارهم أعداء للعرش وللملك. وبالتالي يرى المؤلف أن مخاطبة الملك بهذا الاحترام الظاهر في المنشورات كان هدفه دفع الملك للاختيار بين رئيس أركانه أو بين قاعدة ضباط الجيش التي تظهر ولاءها له. يضيف المؤلف إن الهدف من هذا الخطاب القائم على الاحترام للملك قد تحقق عندما انحاز الملك إلى الضباط وأفرج عن المعتقلين وأقال رئيس الأركان. هذا التفسير الذي يقدمه المؤلف يبدو عملياً ويبين أن احترام الملك كان مجرد تكتيك من الضباط، لكنه لا يكفي في ضوء حالة الالتفاف الشعبي حول الملك كعدو للاحتلال البريطاني.