خلال الأسابيع الماضية شهدت شوارع "رانجون" العاصمة السابقة لبورما مظاهرات ضخمة قام بها رهبان بوذيون مناوئون للطغمة العسكرية الحاكمة، وتعد هذه المظاهرات أكبر تحد شعبي يواجهه الحكام العسكريون منذ عقد من الزمان، حين قام الطلبة ومؤيدوهم من الفئات الشعبية الأخرى بها وذهب ضحيتها آلاف منهم كقتلى أو جرحى أو معتقلين زج بهم في السجون، ولا يزال بعض من زعمائهم قابعين فيها. وتشير بعض التقارير الغربية الواردة من بورما إلى أن الرهبان ليسوا وحدهم الذين خططوا وقاموا بالتعبئة الشعبية للمظاهرات الأخيرة، وإنما ساندهم فيها الطلبة وبعض الفئات الأخرى من عمال وزراع ليسوا راضين عن ممارسات النظام العسكري الحاكم ويتطلعون إلى الإطاحة به، الأمر الذي يؤكد أنه في الوقت الذي شكل فيه الرهبان الواجهة الشعبية للانتفاضة، فإن الأمر المؤكد هو مشاركة مجموعات وفئات شعبية أخرى فيما يجري. وقد تأكد ذلك من ظهور بعض قادة حركة الانتفاضة الطلابية السابقة في شوارع "رانجون"، وهم يُطارَدون من قبل الجهات الأمنية بالإضافة إلى ظهور بعض منهم على الملأ وفي وسائل الإعلام الغربية. ومن سير أعمال التظاهر التي حدثت والطريقة التي أدار بها الرهبان تحركاتهم يتضح بأن المؤسسة الدينية البوذية في بورما باتت تشكل أكثر الفئات الاجتماعية تنظيماً في البلاد وأكثرها قدرة وجرأة على تحدي المؤسسة العسكرية الحاكمة، لذلك فإن لهذا الأمر تداعياته، فقد اتضح بجلاء بأنه عندما تعطس المؤسسة الدينية البوذية ذات الوزن الكبير في مجتمع تدين الغالبية العظمى من أفراده بالبوذية، لابد وأن تصاب المؤسسة العسكرية الحاكمة بعدوى الزكام الشديد، وأنه عندما يقحم الرهبان أنوفهم في السياسة، فإن معنى ذلك أن الأمر خطير ويشهد تصعيداً لابد من أخذه بعين الاعتبار. ولكن بالرغم من ذلك إلا أن الأمر لا يجب أن يفسر بأن الحكم العسكري القائم سيتم استبداله بسهولة في القريب العاجل، ويعود السبب في ذلك إلى أن النظام الحاكم لديه قوات ضخمة تقوم بحراسة قواتها 450 ألف فرد تقريباً، ومنذ أن تم الانتقال إلى العاصمة الجديدة التي يبدو أنها بُنيت خصيصاً كقلعة ضد المظاهرات أو الانتفاضات أو حتى الثورة الشعبية، فإن النظام الحاكم يبدو بعيداً عن أن تنال منه أية مظاهرات من هذا القبيل إلى درجة إسقاطه. وربما يعود السبب في أن مظاهرات الرهبان طال أمدها قبل أن تقمع إلى أن قوات الأمن المختلفة من جيش ومخابرات وشرطة وأمن سري لم تقم بإطلاق النار مباشرة على المتظاهرين كما حدث في المرات السابقة، وإلى أنه لا توجد رغبة لدى القادة العسكريين إلى إعلان حالة الطوارىء القصوى في البلاد. وربما أن السماح للمظاهرات بالمضي قدماً لمدة طويلة نسبياً قبل قمعها، خاصة عندما يكون أصحابها هم الرهبان البوذيون الذين يلقون احتراماً شعبياً واسعاً، يصب في صالح النظام في نهاية المطاف، ويشكل السماح بها أحسن الخيارات لديه. إن العسكريين البورميين أصحاب النظام يعون حق الوعي بأن الشعب البورمي يعاني الأمرين من وجودهم في السلطة، وبأنه يصارع كشعب من أجل البقاء على قيد الحياة. والمؤسف هو أن عملية الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة أمر يستهلك من وقت البورميين دورة كاملة وأمدا طويلا، وليس هو بأمر عرضي إلى جانب فعاليات ومناشط أخرى يقومون بها حالهم كحال بقية أمم الأرض الأخرى. لذلك فإن الطغمة العسكرية الحاكمة تضع في حساباتها بأنها إذا ما سمحت للرهبان ومظاهراتهم بالمضي قدماً، فإن المظاهرات ستحدث وتصل إلى ذروتها ثم تنتهي بذاتها، وليس من الضروري قمعها بشدة بالقوة العسكرية والأمنية. الواقع يشير إلى أن المظاهرات الأخيرة ستكون ذات دلالات مستقبلية مهمة على الوضع السياسي البورمي، وإلى أن الرهبان البوذيين والمتظاهرين الآخرين تمتعوا بشجاعة فائقة في مواجهة نظام عسكري قاس على شعبه ولا يرحم معارضيه، ولكن على المرء ألا يبالغ في التأثيرات الآنية أو المباشرة لحركة الرهبان هذه، فهي في تقديرنا لن تسقط النظام على الفور، وإن أدت إلى دق مسمار في نعشه، إن الحكام العسكريين قاموا باعتقال المئات منذ بدء المظاهرات، وحكم على بعض منهم بالسجن لسنوات لأسباب تبدو تافهة كتزويد الرهبان المتظاهرين بمياه الشرب وهم في الطرقات، أو بإيواء من تطاردهم قوات الأمن من شباب يافعين. لقد كان الرهبان المتظاهرون يطلبون من المدنيين الابتعاد عن المظاهرات والبقاء في منازلهم لأنهم عرضة للاعتقال والتنكيل، ويبدو بأن سير المظاهرات قد وصل الآن إلى الذروة التي أرادها النظام، وربما خطط لها ولم يبق بيد الرهبان سوى اللجوء إلى الوسائل الروحية أو إلى منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي ومناشدتهم بالتدخل ولكن هذه الوسائل أثبتت بأنها غير ذات جدوى مع نظام لا يقيم معياراً لها وكل هم أصحابه هو البقاء في السلطة وبأي ثمن كان، خاصة وأن الأطراف الدولية التي يمكن لها الضغط عليه كالصين والهند وتايلاند وبعض دول أوروبا كفرنسا مشغولة بتحقيق مصالحها الاقتصادية مع النظام ولا يهمها أمر حقوق الإنسان في البلاد كثيراً.