التقرير السنوي لمكتب الاحصاءات الأميركي ذكر أن 36.5 مليون شخص، أي واحد من كل 8 أشخاص من سكان الولايات المتحدة يعيش تحت عتبة الفقر، بينهم أكثر من مليون طفل، بينما هناك 47 مليون شخص محرومون من أي ضمان صحي في هذا البلد. هل يُصدّق ذلك؟ وهل يصدق عنوان "أميركا الفقيرة" عندما تقرأه في تحليل التقرير المذكور؟ في الواقع، هي الحقيقة بالأرقام كما أبرزها تقرير المكتب الذي هو وكالة حكومية. وثمة مفارقة أخرى تشير الى أن أغنياء أميركا يلقون في براميل القمامة ما يقارب مائة مليار طن سنوياً من الأغذية الفائضة عن حاجتهم، ويمكن لهذه الكميات الكثيرة من الأغذية التي يتم هدرها أن تغطي حاجة فقراء أميركا وغيرهم من الفقراء في العالم وهذا أمر مخيف. وفي موازاة ذلك تقارير عن جرحى الحرب الأميركية على العراق وبينهم المعوقون تشير التقارير إلى أن عدد هؤلاء بالآلاف وإلى أن تكلفة رعايتهم والعناية بهم ومعالجتهم مدى الحياة وتأمين الضمانات لهم قد تصل الى 600 مليار دولار. نعم، هو رقم خيالي، لكنه صادر عن المسؤولين عن مؤسسات رعاية هؤلاء الجنود. إنها أرقام مذهلة. نتيجة أحلام خيالية وأوهام. فالقول إن ثمة رفاهية وحقوق إنسان وكرامة إنسان مضمونة بالكامل في الولايات المتحدة وتقديمها وكأنها واحة الحرية الانساني في العالم قول في غير محله وتسقطه أرقام التقارير الصادرة عن مكاتب حكومية في أميركا. واحتلال العراق وشن الحرب عليه تحت عناوين مختلفة ثبت أنها واهية غير صحيحة وغير مبنية على وقائع وحقائق، وتحديد الهدف بإحلال الديمقراطية في العراق، وتخليص البلاد من الديكتاتورية وبناء شرق أوسط جديد وضمان الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب ثبت أيضاً أن كل ذلك ليس صحيحاً على الأقل في مقاربة النتائج الموضوعية المحققة على الأرض، والتي ثبت أن عكس ذلك هو الذي حصل وأن التكلفة كانت عالية جداً جداً. لقد قتل من قتل من الأميركيين. بعد مئات الآلاف من القتلى العراقيين وتهجير الملايين منهم حيث باتوا عبئاً على الدول التي حلوا فيها، إضافة إلى الخسائر المادية الكبيرة وتكلفة الحرب التي تقدر بآلاف المليارات حتى الآن، والمجاعة الموجودة في صفوف فئات كثيرة من أبناء الشعب العراقي في أغنى ثاني دولة في العالم . وفوق ذلك تكلفة المعوقين بمئات المليارات كما ذكرنا. أليس ثمة أسئلة منطقية تسأل؟ ماذا لو استفدنا فقط من المليارات التي ستنفق على رعاية المعوقين الأميركيين ولا أسأل عن آلاف المليارات تكلفة الحرب؟ ألا تعالج هذه المبالغ الكثير من الأزمات في المنطقة، فتخلق حالة من الانتعاش والهدوء والتنمية والاستقرار تنعكس على المزاج السياسي ومشاعر الناس وبالتالي تساهم في لجم حركات التطرف والارهاب بالمفهوم الأميركي؟ ألا تساهم هذه الأموال في معالجة الأمراض والأوبئة ومشاكل البيئة والتربية ومواجهة الجهل والأمية، وتعميم التعليم وتطوير مستواه وبناء المؤسسات القادرة على ذلك مع ما يتركه من أثر إيجابي على تطور المجتمعات؟ لقد اشتعلت حرائق في عدد من دول المنطقة والعالم ولبنان خربت مواقع طبيعية كثيرة وليس ثمة إمكانات مادية وبشرية وتقنية لمواجهتها وبداية لتفاديها! ألم يكن ممكناً توفير هذا المال واستخدامه في هذا المجال ومجالات أخرى لمواجهة نتائج مشكلة الاحتباس الحراري التي ستترك آثارها السلبية على كل العالم، من خلال المتغيرات الطبيعية التي ستنجم عنها خلال السنوات المقبلة والتي بدأت ملامحهما بالظهور منذ مدة؟ ألم يكن ممكناً توفير هذا المال لرعاية الأميركيين الفقراء وتوفير الضمانات الصحية لديهم، وتخفيض نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر؟ والأسئلة ذاتها تطرح في عدد آخر من الدول التي يتم فيها الانفاق على التسلح أو يكون فيها سوء إدارة وفساد، ويكون فيها في الوقت ذاته نسب عالية من السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر وتكون فيها مشاكل اجتماعية كبيرة؟ قرأت الكثير عن هذه الأمور. فكرت في أزمة لبنان وديوننا والتي لا تقاس بشيء نسبة إلى ما ذكرناه من آلاف المليارات تنفق هنا في الحروب ومئات المليارات تنفق كنتيجة لها، وكل ذلك على أرضنا. وفكرت في الشعب الفلسطيني والصور التي تبث عن آلاف الفلسطينيين يتهافتون على أبواب مراكز حكومية ليحصل الواحد منهم على مائة دولار مساعدة بعد أشهر من البطالة وعدم الحصول على أي مبلغ من المال للعيش، وفي أرض فيها أعلى نسبة سكان في العالم، وهو الشعب الوحيد في العالم الذي لا يزال يعيش على المساعدات. وفكرت في شعوب أخرى في أفريقيا وغيرها، وفي حالات أخرى مشابهة للحالة الأميركية، وفي مشاكل كثيرة كان يمكن لهذا المال أن يساهم في معالجتها. قد يقال، هذه مسؤوليتكم أولاً في لبنان. هذا صحيح، لكن جانباً من المسؤولية يقع أيضاً على الآخرين لاسيما على الذين يتحدثون عن الديمقراطية والحرية ولبنان هو الدولة الأولى والأعرق في تاريخ هذه المنطقة المميزة بهاتين الميزتين. والشعب اللبناني دفع ثمناً كبيراً لتمسكه بهما ولا يزال يدفع. وهو لم يكد يخرج من الحرب مع إسرائيل عليه حتى دفع ثمن الحرب على الإرهاب في "نهر البارد" وهو بإنجازه الكبير بضرب الذين اعتدوا على الجيش والأمن الداخلي والمدنيين الأبرياء خلص لبنان والمنطقة ودولاً كثيرة من هذا الخطر. أقول ذلك من دون أن أتجاوز المسؤوليات الداخلية في الدين العام وفي الخلافات والسياسات والمناكفات، لكن كل الأمور مرتبطة ببعضها بعضا. وما ينطبق على أميركا ينطبق على اقتصادات دول أخرى، وثمة الكثير يُكتب ويحكى عن إيران في إنفاقها على التسلح، وعن واقعها الاقتصادي والاجتماعي، وعن سباق التسلح في المنطقة، خصوصاً بعد تفاعلات المفاعلات النووية الايرانية سياسياً والغليان الذي أحدثته والحديث عن مواجهات وصدامات. شاهد القول، ما أوردته تقارير مكتب الاحصاءات الأميركي، وما تورده تقارير أخرى عن دول أخرى، يؤكد أن السياسات التي تبنى على أوهام وأحلام وتتجاوز العقلانية والواقعية والعدالة والانسانية تتحدث عنها في النهاية الأرقام الخيالية. المفجع أن الذين يعتمدون هذه السياسات لا تعني لهم الأرقام شيئاً إنسانياً ومادياً.