لم يكن ممكناً التشدق بالنصر واستعراضه أمام العالم كما فعل بوش بعد دحر قواته للجيش العراقي عام 2003. أما الحرب الكورية عام 1951 فكانت قاسية في معاركها مخلفة الكثير من الضحايا ومسجلة المواجهة الحامية الأولى في حرب باردة بين القطبين الأميركي والسوفييتي. والواقع أن الحرب لم تكن باردة فقط من الناحية الأيديولوجية، بل كانت أيضاً شديدة البرودة على الجنود الأميركيين الذين وجدوا أنفسهم في خريف ذلك العام القارس وجهاً لوجه مع القوات الصينية التي اندفعت من حيث لم يتوقع الأميركيون. لذا ليس غريباً أن يختار الصحفي الأميركي المشهور "ديفيد هالبيرشتام" كعنوان لكتابه الأخير "الخريف الأبرد: أميركا والحرب الكورية". فقد كرس الكاتب حياته لتتبع الحروب التي خاضتها أميركا وتوثيقها في كتب بلغ عددها العشرين كتابا كلها تتوغل في تفاصيل المعارك، وأهوالها. ويستند المؤلف إلى تاريخه الشخصي في نقل حرب فيتنام وعلى حواراته المتعددة التي أجراها مع المسؤولين السياسيين والعسكريين الأميركيين. وإذا كان الرأي السائد اليوم هو أن أميركا نجحت في تحقيق أهدافها من الحرب الكورية بوقفها المد الشيوعي الذي كان يهدد باجتياح شرق آسيا، فإنه عند النظر إلى المعارك التي خاضها الجنود الأميركيون وما عانوه بسبب الحسابات الخاطئة، ينكشف لنا عمق المعاناة وفداحة الخسائر التي منيت بها الأطراف جميعاً. فالحرب الكورية بقدر ما كانت تجري على ساحة جيواستراتيجية تضع قوى كبرى في مواجهة بعضها بعضا وتدفع الأيديولوجيات المختلفة إلى البحث عن موطئ قدم لها في الأراضي القريبة منها، كانت أيضاً معركة حياة أو موت تجري فوق التلال المكسوة بالثلج وفي الأحراش والغابات. وكما يكشف المؤلف بكثير من الغضب والاستياء، فقد اتُخذ قرار الحرب بناء على معلومات استخباراتية غير دقيقة دفعت الولايات المتحدة إلى دخول حرب طاحنة. فخلافاً لما كان عليه الأمر في فيتنام والعراق، حيث المصادر المدنية تمرر المعلومات للقادة العسكريين، وأحياناً تقدمها بغرض التأثير واتخاذ مواقف معينة، فقد حدث العكس في الحرب الكورية، إذ كانت القيادة العسكرية في الميدان تمرر معلومات مبالغ فيها للإيهام بضرورة استمرار الحرب. لكن بالنسبة للمؤلف شكلت الحرب الكورية سابقة في هذا المجال حيث "بدأت الحكومة الأميركية الاعتماد في اتخاذ القرارات المصيرية على معلومات استخباراتية محدودة ومغلوطة خدمة لأغراضها السياسية". وبالطبع تؤثث خلفية الكتاب ثلاث حروب أخرى تضاف إلى الحرب الكورية، وإن كانت هذه الأخيرة تسبقها في الزمن، لتظهر مرة أخرى مكر التاريخ وكيف أن الأخطاء في كوريا تعيد نفسها في سياقات أخرى مثل حربي فيتنام والعراق. فقد كانت أخطاء الرؤساء واضحة والهفوات السياسية أكثر من أن تعد؛ وأهمها الاستثناء غير المفهوم لكوريا الجنوبية من "المنطقة الدفاعية" التي أعلن عنها وزير الخارجية الأميركي "دين أشيسون" في خطاب له، متناسياً الالتزام الأميركي وقتها إزاء العالم الحر وانخراط كوريا الجنوبية في أيديولوجيته. هذا القفز على تضمين كوريا الجنوبية في خطاب وزير الخارجية شجع ستالين على تحريك قوات كوريا الشمالية الشيوعية بعدما تعهد زعيمها "كيم إيل سونج" بإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية في غضون ثلاثة أسابيع، وهو ما أوشك فعلاً على تحقيقه. فجاء الرد الأميركي متباطئاً، حيث لم يتحرك الجنرال "ماكارثر"، المتوج بانتصاراته الباهرة في الحرب العالمية الثانية والحاكم العام لليابان، بالسرعة الكافية لمواجهة القوات الشمالية التي اجتاحت الجنوب. والأكثر من ذلك أن الجنرال العتيد أخطأ في قراءة التحرك الكوري الشمالي خلال الليلة الأولى واعتبره مجرد قوة استطلاعية، ليقر في اليوم التالي، والارتباك واضح عليه، "أننا خسرنا كوريا". ومع أن القادة الأميركيين كانوا وقتها، كما يقول المؤلف، قليلي المعرفة بكوريا في جزئيها معاً. إلا أنه لخوفهم من تكرار سيناريو التباطؤ إزاء الخطر النازي في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى تجربة خسارة الصين للشيوعية عام 1949، قرروا مقاومة ما اعتبروه وقتها اجتياحاً صينياً سوفييتياً لنشر الشيوعية في العالم. لكن المؤلف، الوطني في مشاعره دائماً، لا ينتقد قرار الحرب والتصدي للقوات الشيوعية، بقدر ما يعيب العقلية التي قادت الحرب والطريقة التي تم التعامل بها مع الأحداث لاحقاً والتي قادت إلى "كارثة أميركية من الدرجة الأولى". وفي الجولة الأولى للحرب التي فاجأت الأميركيين كادت القوات الكورية الشمالية تبيد بالكامل فوجين أميركيين، كما حاصرت القوات الأميركية المنسحبة لثلاثة أشهر في زاوية ضيقة من بحر اليابان. غير أن الجنرال "ماكارثر" الذي كان يراقب الوضع عن كثب، قام بمناورته البارعة والتي، للمفارقة يقول الكاتب، تسببت في كارثة أكبر. فبدلاً من إرسال التعزيزات للقوات المحاصرة، قام بإنزال عسكري بحري في منطقة "إنشون" على بعد 150 ميلاً من الجنود المحاصرين محتلاً المناطق المحاذية ومحاصراً القوات الكورية الشمالية. وبعد نشوة الانتصار رفض "ماكارثر" الأخذ بنصيحة أشارت عليه بإقامة خط دفاع في الجنوب والتمترس وراءه لصد أي هجوم محتمل للقوات الصينية التي كانت تحتشد خلف حدودها مع كوريا. فكان أن أمر الجنرال "المغرور" بغزو كوريا الشمالية بأكملها، واثقاً من أن القوات الصينية لن تجرؤ على تحديه، ليقع العكس تماماً، حيث سيواجه الجنود الأميركيون أكبر كمين في التاريخ الأميركي نصبه مئات الآلاف من الجنود الصينيين! زهير الكساب الكتاب: الخريف الأبرد: أميركا والحرب الكورية المؤلف: ديفيد هالبيرشتام الناشر: هايبريون تاريخ النشر: 2007