أمضى الرئيس بوش ست سنوات ونيف في البيت الأبيض من دون أن يستخدم حق الفيتو. وفي عام 2005 أصبح أول رئيس منذ "جون كوينسي آدامز" ينهي ولايته في البيت الأبيض من دون أن يقف ولو مرة واحدة في وجه الكونجرس. لكن يبدو أن بوش بدأ صبره ينفد وأصبح أكثر توقاً إلى معركة وشيكة ضد الكونجرس الذي تجرأ واقترح توسيع نطاق التغطية الصحية لتشمل الأطفال الفقراء. والغريب أن مشروع القرار الذي يعتزم بوش استخدام حق الفيتو ضده يحظى بدعم الحزبين معاً، كما يسانده ثلثا الرأي العام، وهو ما يجعل خطوة بوش عبثية من الناحية السياسية. لكن حتى من ناحية السياسات الحكومية تنطوي خطوة بوش الرامية إلى رفض مشروع قانون الكونجرس على عبثية ولا تنسجم مع المنطق السليم. فمشروع القانون لن ينص سوى على توسيع برنامج التأمين الصحي للأطفال، وهي المبادرة الناجحة التي يدعمها بوش بنفسه. ويضاف إلى ذلك أن استخدام حق النقض لتعطيل مشروع القانون ينبني على إحصائيات مغلوطة، فضلاً عن ثقة في السوق مبالغ فيها. فقد دافع بوش عن معارضته لمشروع القانون خلال مؤتمر صحفي يوم 20 سبتمبر الماضي، حيث أعلن بداية أن المشروع "يحور البرنامج المفترض فيه مساعدة الأطفال الفقراء إلى الأطفال الذين يعيشون في عائلات يصل دخلها السنوي 83 ألف دولار". لكن استخدام عبارة "يصل الى 83 ألف دولار" ينطوي على مغالطة، ذلك أنه بالنسبة للغالبية العظمى من الأطفال الذين ستشملهم التغطية الصحية ينتمون إلى عائلات يقل دخلها السنوي عن 83 ألف دولار. بل إن 70% من الأطفال المستفيدين ينحدرون من عائلات لا يتجاوز دخلها السنوي 41.300 دولار، حسب الدراسة التي أجراها "معهد الدراسات الحضرية". أما الباقون فينتمون إلى عائلات يقل دخلها السنوي عن 62 ألف دولار. وقد اشتكى بوش أيضاً في المؤتمر الصحفي من أن مقترح الكونجرس "سيزيح الملايين من الأطفال الذين يتوفرون على تغطية صحية خاصة إلى التأمين الذي تديره الحكومة". والواقع أن ثلثي العشرة ملايين طفل المراد تغطيتهم صحياً لن يستفيدوا من أي تأمين سواء أكان حكومياً أو خاصاً إذا مضى بوش قدماً في رفضه لمشروع القانون. كما سيعاني العديد من الأطفال ضمن الثلث المتبقي من ثغرات في التغطية الصحية حسب تحليل قام به "مركز الموازنة والأولويات السياسية". ولربما كان الرئيس بوش يعتقد بأن بعض المدارس التي تتلقى أموالاً فيدرالية تحت قانون "لا طفل متخليا عنه"، كفيل بحل مشاكل التغطية الصحية من دون الحاجة إلى دفع مزيد من الأموال! لكن هل تلك حجة تبرر فعلاً معارضة الرئيس لمقترح الكونجرس؟ يبقى الجانب الأكثر إثارة للقلق في رفض بوش للمقترح، ليس ذلك المتعلق بالأرقام، بل هو القائم، كما عبر عن ذلك، على أساس اعتبارات "فلسفية". فقد صرح بوش في المؤتمر الصحفي قائلاً: "ما أنا بصدد الحديث عنه هنا هو تلك الهوة الفلسفية الموجودة في واشنطن حول الطريقة الأفضل لمقاربة الرعاية الصحية". وتكمن معارضته الحقيقية لمقترح الكونجرس في أنه يمثل "خطوة تدريجية نحو إقامة نظام للرعاية الصحية تديره الحكومة". ولو تركنا جانباً مسألة أن برنامج الرعاية الصحية للأطفال لا تديره الحكومة بل تموله فقط، فإن شركات التأمين الخاصة هي من تدير الأرباح، كما أن الأطباء وباقي مهنيي الجهاز الطبي ينتمون إلى القطاع الخاص. وهذا يختلف بالطبع عما قالته المتحدثة باسم الرئيس بوش خلال الأسبوع الماضي من أن المقترح هو "تطبيب على الطريقة الاشتراكية". والأكثر من ذلك أن السوق الحر في مجال الرعاية الصحية ليس بالضرورة أفضل من ذلك الذي تديره الحكومة. وبالنظر إلى الأموال الطائلة التي تنفقها الولايات المتحدة على الرعاية الصحية، فإنه من المعيب حقاً أن يفشل بوش في اكتشاف الخلل. فالولايات المتحدة تنفق تقريباً أكثر بمرتين على الرعاية الصحية من أنظمة التأمين الصحي الاشتراكية في فرنسا والسويد، رغم أن معدل الحياة في أميركا يبقى أقل مقارنة مع تلك الدول. ويرجع هذا الإسراف في الإنفاق إلى التقديرات المبالغ فيها للأطباء والمستهلكين من المشمولين بالرعاية الصحية وتحويل النفقات إلى طرف ثالث متمثل في شركات التأمين الخاصة. ويأمل مستشارو الرئيس بوش في أن يتمكن نظام خاص للتأمين الصحي من العمل بشكل أفضل من خلال استبدال الطرف الثالث الذي يسدد النفقات بمستهلكين قادرين على دفع تكاليف الرعاية الصحية من جيوبهم، ومن ثم دفعهم إلى الاعتدال في الإنفاق الصحي. لكن الجزء الأكبر من التكاليف الصحية يأتي في حالات الطوارئ، عندما يمرض المواطنون ويشعرون بأنهم أبعد ما يكونون عن القدرة المالية التي يتحدث عنها مستشارو الرئيس بوش. والأكثر من ذلك أن حالات الطوارئ تكلف مبالغ باهظة لن يسددها المستهلكون من جيوبهم حتى في السيناريوهات الإيجابية التي يتصورها الرئيس بوش. وبسبب القيود التي تحيط بعملية تمكين المستهلكين التي يهدف إليها بوش وفريقه في البيت الأبيض، فإن وظيفة القطاع الخاص في النهوض بالرعاية الصحية ستبقى محدودة، وذلك حتى قبل أن نصل إلى معضلة من هم خارج التغطية الصحية التي لا يستطيع القطاع الخاص معالجتها. سيباستيان مالاباي كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"