مع أكثر من خمسة ملايين مرة ورد فيها اسم "rumi" في جوجل، وهو مختصر جلال الدين الرومي، ونحو مائة وخمسين ألف مرة فقط بالعربية، نخسر ميداننا الوحيد، فأميركا لم تطأ القمر وتستعد للمريخ فحسب، بل هي تتقدم روحياً، وهو الميدان الذي نزعم أننا فرسانه كلما تذكرنا باقي الميادين التي نجلس في مدرجاتها متفرجين. الرومي أو المولوي الذي لم تعرفه أميركا إلا قبل نحو عشر سنوات، أصبح مادة دراسية في جامعاتها، وفاقت مبيعات دواوينه مبيعات دواوين أي شاعر آخر، بل وفاقت مبيعات سلسلة "هاري بوتر"، وهو النجم الأول في الصفحات الثقافية في صحفها، وأصبحت صورته أيقونة على القمصان والأكواب والروزنامات، خصوصاً بعد أن انتقل الولع به إلى نجوم السينما والغناء هناك. لذلك لم يكن غريباً أن تقرر اليونسكو الاحتفال بمناسبة الذكرى المئوية الثامنة لميلاده، وهو الاحتفال الذي أقيم مؤخراً في مدينة "قونية" التركية التي دُفن فيها. يحدث هذا في أميركا بعد اكتشاف المولوي بسنوات قليلة، بينما في عالمنا الذي يعرفه منذ قرون لا يحدث إلا بعض الترجمات لأعماله، ولا يعرفه إلا النخبة، وبعضهم لا يعرف غير اسمه، ربما لأن النخبة مولعة بكل ما هو غربي ولا وقت لديها لتضيعه مع المسلم والشرقي. والمؤسف أن التيارات الإسلامية في أغلبها، تتجاهل المولوي وتغيّبه، وإذا ذكرته فلأجل التحذير منه، كما يفعل السلفيون، على الرغم من أن أعمال المولوي تعكس جوهر الرسالة الإسلامية، وكانت من عوامل تمييز الأميركيين بين المسلمين وبين الإسلام عقب نطح ثيران "القاعدة" البنايات الأميركية. والأمر ليس مقتصراً على قصر نظر السلفيين وتصوّرهم أن الخمر والعشق الصوفيين هما خمر الحانات وعشق الفاتنات، فعند الأصوليين الشيعة، لا يُنظر للمولوي بعين الرضا، فقد قيل على المنابر في إيران، وهي البلاد المحظوظة بالمولوي كون أعماله مؤلفة بالفارسية، "مَثْنوي.. مَشْنوي" أي ديوان المولوي المسمى "مثنوي"، لا تسمعوه.. لأنه ببساطة، يدعو إلى الله ويسقط كل الحواجز الدينية والاختلافات بين البشر، فهو القائل: "تعال وكلمني.. تعال ولا يهم من أنت ولا إلى أي طريقة تنتمي.. تعال حتى ولو كنت أخللت بالتزامك وتعهدك... تعال لنتكلم عن الله". لذلك تضيق صدور القوم بكلام المولوي لأنه لا "يصرّفهم" ويُبطل ادعاء تميّزهم وتفوّق أتباعهم على باقي الخلق. ومع المولوي لا حاجة إلى رجل الدين إلا في ما يخص عقود النكاح والطلاق وطريقة الركوع والسجود، وتزول معه هالته وسلطته ووكالته عن الله، ويحل محلها شعور بالرثاء لحال مَنْ لم يضع رجله في البحر قط لكنه يصف، وبجرأة، عجائب الموجودات في قاع المحيط... والمولوي نفسه لم يسلم من أذاهم على الرغم من أنه كان واحداً منهم، فقد كان فقيهاً وحوله الآلاف من طلبة العلم، لكنه تركهم وتعلّق بصوفي جوّال يدعى شمس الدين التبريزي، فأنكروا عليه ذلك وتآمروا على شيخه التبريزي وقتلوه، فبكاه المولوي في 43 ألف بيت وهو يدور. وقد يفسّر ولع الأميركيين بالمولوي إلى ظمئهم الروحي بسبب ما يقال عن جفاف حضارتهم المادية، بينما نحن، ولله الحمد، نشعر بالثمالة الروحية ولسنا بحاجة إلى المزيد... وهي فعلاً ثمالة لكنها ثمالة فقهية لا تغسل القلوب من التعصّب ولا تعين النفوس على أهوائها ولا تروّض الوحش البشري وتجعله إنساناً، كما تفعل أعمال المولوي.