قبل أعوام قليلة، كانت الكتب والمراجع الطبية تنص على أن سرطان الثدي مرض يصيب غالباً النساء المنحدرات من أصول أوروبية، والقاطنات للمدن الكبرى في قارتي أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. هذه الكتب والمراجع بدأت مؤخراً في تغيير هذه المعلومة، والتي ظلت تدرس لعقود طويلة لطلبة الطب وللأطباء، بعد تواتر الإحصائيات والدراسات التي تظهر الانتشار المتزايد في السنوات الأخيرة لسرطان الثدي في كل من آسيا، وأفريقيا، وشرق أوروبا، وأميركا الجنوبية، إلى درجة أن بعض التقديرات تشير إلى أنه بحلول عام 2020، أي بعد قرابة اثني عشر عاماً فقط، سوف تقع سبعون في المئة من حالات سرطان الثدي في الدول النامية، بينما ستكون 30% فقط منها في الدول الغربية. وهو ما قد يدفع بمحرري الكتب والمراجع الطبية حينها، للتأكيد على أن سرطان الثدي، مرض يصيب (غالباً) نساء الدول النامية. ولكن ما هو السبب في هذا التغير الجذري في نمط انتشار سرطان الثدي؟ هل هو تطور وسائل التشخيص في الدول النامية، بحيث أصبح من الممكن تشخيص المرض بسهولة ويسر عن ذي قبل؟ أم هو تغير نمط الحياة في الدول النامية، كنتيجة حتمية لظاهرة العولمة، وتحول العالم إلى قرية صغيرة؟ للأسف، لا توجد إجابة سهلة ومباشرة لهذه التساؤلات. فرغم أن الدول النامية قد شهدت بالفعل ارتفاعاً ملحوظاً في مستويات الرعاية الصحية، وفي توفر وسائل التشخيص خلال العقود القليلة الماضية، إلا أن سرطان الثدي بسبب طبيعته الخبيثة، ومكانه الواضح، لم يكن ليحتاج لتكنولوجيا متقدمة لتحقيق التشخيص، خصوصاً في مراحله المتأخرة. وما حققته هذه التطورات التكنولوجية، كان على صعيد التشخيص المبكر، والمبكر جداً، بهدف زيادة فرص نجاح العلاج، ليس إلا. وحتى ارتفاع مستويات الرعاية الصحية بوجه عام، كان ذا أثر على توفر العلاج المناسب والعناية المستمرة، ولا علاقة له بمعدلات الإصابة من الأساس. وأمام هذا المنطق، يظل المتهم الوحيد في زيادة انتشار معدلات الإصابة بسرطان الثدي في الدول غير الغربية، هو تغير نمط الحياة في تلك الدول كنتيجة للعولمة، بحيث أصبحت تقترب يوماً بعد يوم من نمط الحياة في الدول الغربية إلى درجة أن أكثر من مليون امرأة حول العالم أصبحن يصبن بالمرض كل عام، ويلقى نصف ذلك العدد حتفهن في النهاية بسبب هذا المرض اللعين. ولكن ماذا نعني بالتغيرات في نمط الحياة؟ وما مدى تأثر سرطان الثدي بهذه التغيرات؟ وحتى إن كانت هذه التغيرات هي السبب، فلماذا أصبحت معدلات الإصابة والوفيات في الدول النامية، التي تحولت أنماط حياة أفرادها لتتشابه مع النمط الغربي، أعلى من مثيلاتها في الدول الغربية؟ بالنسبة لمدى تأثر سرطان الثدي بالتغيرات في نمط الحياة، فالحكمة الطبية السائدة حالياً هي أن سرطان الثدي، مثله مثل بقية الأمراض الخبيثة، هو النتيجة النهائية للعديد من المؤثرات التراكمية، البيولوجية والوراثية والبيئية. فعلى سبيل المثال، يرتبط السرطان بشكل كبير بالتقدم في السن، فكلما زاد العمر زادت احتمالات الإصابة بالسرطان. وهو بالتحديد ما حدث في حالة سرطان الثدي. حيث نجح ارتفاع مستوى المعيشة في الكثير من الدول خلال العقود القليلة الماضية، في زيادة متوسط عمر غالبية النساء حول العالم. فخلال العقود الأربعة بين عامي 1965 و2005، ارتفع متوسط العمر في الدول النامية من 50 إلى 65 عاماً. وهذا التطور الإيجابي، تم من خلال توفر الغذاء بكميات أكبر، ومن تطور شبكات الصرف الصحي ونجاحها في الوقاية من الأمراض الناتجة عن تلوث المياه، وتطور سبل الوقاية والعلاج ضد الأمراض المعدية، وغيرها من الأسباب. وكنتيجة لهذه الزيادة في متوسط العمر، أصبحت المجتمعات البشرية تحتوي على عدد أكبر من النساء ضمن الطائفة العمرية التي ترتفع لديها احتمالات الإصابة بسرطان الثدي. وثمة أحد العوامل الأخرى التي تغيرت بشكل كبير في الدول النامية مؤخراً، وهو طبيعة وكميات الغذاء. فهذا العامل اتضح تأثيره بشكل جلي، من خلال دراسة نشرت في شهر يوليو الماضي، وعنيت بمقارنة العادات الغذائية لثلاثة آلاف امرأة صينية، قسمن إلى مجموعتين. المجموعة الأولى اعتمدت على نفس نوعية الغذاء الغربي، المحتوي على كميات كبيرة من اللحوم الحمراء والحلويات أو السكريات. بينما اعتمدت المجموعة الأخرى على الغذاء الصيني التقليدي، المحتوي على كميات كبيرة من الخضروات والأسماك، والتوفو، وحليب الصويا. وبتحليل معدلات الإصابة بسرطان الثدي بين المجموعتين، اكتشف العلماء أن معدلات الإصابة في المجموعة الأولى المعتمدة على الغذاء الغربي، كانت أعلى بنسبة 60% من المجموعة المعتمدة على الغذاء الصيني التقليدي. هذا التغير في نوعية وكمية الغذاء، بالإضافة إلى قلة ممارسة النشاط البدني اليومي، نتج عنهما حالياً وباء عالمي من السمنة. فقبل عصر العولمة، والميكنة، كانت الكثير من المجتمعات في الدول النامية تعتمد على المجهود البدني، وعلى القوة العضلية، في تأدية المهام اليومية الاعتيادية، وهو ما كان يجنب أفرادها زيادة الوزن والسمنة، وبالتالي الإصابة بسرطان الثدي. ومن المعروف والثابت، وجود علاقة بين زيادة الوزن، وبين زيادة احتمالات الإصابة بسرطان الثدي. وبخلاف احتمالات الإصابة بسرطان الثدي، أدت ظاهرة العولمة إلى تغيرات واضحة على الصحة العامة البشرية، ظهرت من خلال العديد من الأوبئة الأخرى، مثل وباء السكري، وأمراض القلب والشرايين، ووباء السمنة، والاكتئاب، وهي الأمراض والأوبئة التي أصبحت تنتشر مؤخراً بين أفراد الجنس البشري انتشار النار في الهشيم.