لشهور قضى الأمير "بيرن" حياته معلقاً بيد محبوبته الأميرة التي توصِلُ له الماءَ وكسرات العيش من ثقب صغير تركه حجر جبار وضع على قمة الجب الذي حبسه فيه أباها الملك "افراسياب" ليموت باعتباره ابن خصمه الملك الإيراني "خسرو". وأظن أن رمضان والأعياد هي تلك اليد التي تبقي المسلمين والعرب معلقين بأمل الحياة واسترداد العزة المهدورة في يوم مقبل كما استردها الأمير العاشق في روايات "الشاهنامة". والمعنى أن الأمل واليد الممدودة بالحنان والعطاء هي الحبل السري الذي يربط الشعوب بالحياة والمستقبل. فرمضان والعيد هما الدفاعات المشرعة في وجه الغدر والقسوة وغلظة العقل وجفاف الضمير في واقعنا العربي ومحيطنا الدولي. ولأن الأفراح تبهج أكثر وقت الأتراح فالرسالة الخالدة للعيد هي الفرح بمنحة الحياة الإلهية وبالمنحة الأعظم التي بثها الخالق في عبيده وهي الأمل. فاحتفلوا وابتهجوا برمضان والعيد. قضينا رمضان في انتظار حركة في أجندتنا المعطلة والممنوحة طوعاً لكافة القوى خارجنا. ومع هذا فمن حقنا أن نبتهج بالعيد. ومع ذلك فبهجتنا لن تكون كاملة ولا هي صافية. ولا أمل بدون عمل ولا عمل بدون تركيز. قد نركز في الوقت الحالي على الموضوع الفلسطيني، فهو أم القضايا والمحرك الأول للوجدان العربي ومقياس الحلفاء والخصوم والأعداء والعلة وراء كل ما طال المنطقة من بلاء. وهو بذلك جدير بالتركيز الدائم والذي لا يهدأ أبداً. ثم إنه مطروح لاختبار صعب بدأ قبل رمضان ويدخل بعد العيد مباشرة إلى عجلة تفاوض سريعة ومضغوطة وضاغطة. فالمؤتمر الدولي الذي دعا له الرئيس الأميركي قد يعقد في نوفمبر المقبل. وحتى يبدأ سيستأنف أبو مازن وأولمرت مباحثاتهما حول وضع صيغة "إعلان مبادىء" يتممه أو يرعاه مؤتمر ميانابوليس "الدولي". غير أن التركيز على الموضوع الفلسطيني بسبب المؤتمر المقترح، قد لا يكون سليماً بل قد يقود لمزيد من الانقسامات والاحباطات. فأولاً لم نقدم كعرب شيئاً للشعب الفلسطيني ولا للمجتمع السياسي الفلسطيني ينقذه من أزمته المتفجرة بعد أحداث 14 يونيو الماضي. ونعلم أن أميركا وإسرائيل "اصطادتا" الجانب الفلسيطيني وهو في أضعف وأسوأ أوضاعه لكي تعصراه وتحصلا منه على تنازلات أكبر من التنازلات السابقة. ونعلم أننا لم نساعد الفلسطينيين في صياغة مشروع تفاوضي يليق بالتضحيات المريرة للشعب طوال أكثر من ستين عاماً. ونحن نعلم أن إبرام أي اتفاق الآن ووسط الأنواء الحالية قد يقود هذا الشعب المنقسم على نفسه إلى حلقة جديدة من الحرب الأهلية. فيم نركز إذن أثناء وبعد العيد؟ قد نركز على الموضوع اللبناني. ولهذا أيضاً ما يبرره. فهناك استحقاق الاختيار الرئاسي الملح والذي يجب حسمه على وجه السرعة. وإن لم يحسم بالتراضي والإجماع قد يفجر حرباً أهلية جديدة وخطيرة تضاعف الانقسامات والجروح في الكيان العربي. ونعلم أيضاً أن فتح الجرح اللبناني لآخره يعطل بالضرورة أو يتقاطع على نحو قاتل مع الموضوع الفلسطيني. بل قد يقود إلى تعميم الأزمة العربية. وبالمقابل فثمة اقتراحات كان بعضها نضج لاتخاذ قرار لا بصدد الاستحقاق الرئاسى وحده وإنما حول لوحة القضايا التي أوقفت عمل النظام السياسي اللبناني بأسره. فان تم فك عقدة الرئاسة، قد تتسع المصالحة لبقية القضايا الملحة في هذه اللوحة. كما نعلم أنه إذا طبق حل خلاق في الملف اللبناني قد يسهل إيجاد حلول وسط للأزمة العربية التي نتحدث عنها بل قد تتم حلحلة الأزمة الأميركية السورية. لكننا نعلم أيضاً بالمقابل أن التركيز على الملف اللبناني الداخلي يتوقف إلى حد بعيد على مواقف دولية وعربية تنظر لما هو أبعد وأعمق غوراً من المسألة اللبنانية. ومن ناحية أخرى فعلى ما للبنان من دور وأهمية، فحسم قضيته قد لا يقود تلقائياً إلى حسم القضايا العالقة الأخرى في الإقليم العربي وفي العالم الإسلامي المحيط. هل نركز إذن أثناء وبعد العيد على المسألة العراقية؟ الإجابة على هذا السؤال أكثر يسراً لأن هذه المسألة صارت الأكثر تعقيداً في المشهد العربي والإسلامي والدولي كله. فهي تلخص كل ما في العالم من قوانين المجتمع والاستراتيجية ولو في حقبة تتسم بانهيار القوانين كلها. ونعلم أن الموضوع صار في الوقت الراهن أكبر من قدرات الجميع بمن فيهم الولايات المتحدة. هل نركز إذن أثناء رمضان والعيد على الموضوع الإيراني- الأميركي؟ هناك نظرية عامة تبرر هذا التركيز. فقد صار الصراع الأميركي- الإيراني العقدة أو القاطرة الرئيسية للتطور السياسي والاستراتيجي في المنطقة. بهذه القاطرة يرتبط مصير العراق ولبنان وربما وان بدرجة أقل شدة وأقل مباشرة، فلسطين أيضاً. وبوجه عام فإن توصل الطرفان لحلول وسط قد يحل أو يجر حلولا للصراعات الاستراتيجية الكبيرة الأخرى: العراق وفلسطين ولبنان. ومع ذلك فإن حل هذا الصراع مرهون لفترة مقبلة بالموقف الأميركي وبالأوضاع الداخلية في إيران. وقد نستطيع التأثير على هذا وذاك لكننا قد نستغرق وقتاً أطول فيما لو قمنا بواجبنا الأساسي وهو أن نصبح طرفا في المعادلة الاستراتيجية من خلال عمل شاق. أظن أن ما يجب أن نركز عليه على الفور هو أن نحفز ما يكفينا من الإرادة لنتحول إلى فاعل حقيقي في كل قضايانا المصيرية باعتبارنا كتلة قوة عربية وليس كمنطقة فراغ مستلبة الإرادة بما يجعلها موضوعا أو في أحسن الأحوال حليفاً لكل فاعل آخر. ما يجب أن نركز عليه على الفور هو إبرام صفقة استراتيجية عربية تضمن لنا أن نتصرف باعتبارنا رقماً وقوة ذات تأثير في كل المشهد المعقد الذي يحيط بنا. وهذه المهمة هي الوحيدة التي لا تقبل انتظاراً بل ويمكن توقيتها باعتبارها مهمة ممكنة وفورية. صحيح أن الظروف غير موائمة, وصحيح أن الخلافات العربية تعقدت، وصحيح أن ثمة تخندقا واضحا وراء صياغات وتحالفات أكثر ضماناً للأطراف المعرضة لخسارة وجودها وليس فقط حدودها أو حدود تأثيرها وحضورها في السياسات الإقليمية والدولية, وصحيح أن النمط والظروف الراهنة للقيادات العربية تحرمها من الحيوية والخيال وحس المبادرة والهيبة الضرورية لإبرام صفقة طموحة. ولكن صحيح أيضاً انه ليس لدينا في الزمان والمكان براهنيتهما بديل آخر سوى القفز إلى المجهول وخسارة كل شيء لحقبة طويلة مقبلة. المهمة واضحة وممكنة بل ومبهجة بتركيز وصفاء ليس لأن لدينا فاعلين مؤكدين ولكن لسبب آخر تماماً وهو أن الفاعلين غير العرب وضعوا أنفسهم طوعاً في مصيدة الجمود والعجز عن الحسم والفشل في الاحتفاظ بزمام المبادرة وتغيير الأمر الواقع في الاتجاه المطلوب. وبتعبير آخر إن لم يكن العرب بحاجة لأنفسهم فالواقع الموضوعي يقول بأن كل الفاعلين الآخرين يحتاجونهم لأنهم الطرف الوحيد القادر على كسر الجمود الكامن في الموقف الاستراتيجي والسياسي الإقليمي والدولي. نتيجة تبدو مفارقة. ولهذا قلنا إن الأفراح قد تأتينا وسط الأتراح... فابتهجوا برمضان والعيد، والبهجة افتتاح للأمل بالعمل.