فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث دول يجمعها اتحاد كونفيدرالي ليست جديدة إلا في المبادرة التي حملتها إلى الكونجرس الأميركي، وأسفرت عن قرار أصدره مجلس الشيوخ يطالب بإقامة ثلاث وحدات فيدرالية. فالفكرة مطروحة منذ عامين على الأقل عندما بدا أن الفجوة المتزايدة بين القوى التي تتحدث باسم كل من الشيعة والسُنة تخلق واقعاً جديداً يصعب تجاهله. وفي ذلك الوقت أيضاً، بدأ يتضح أن النظام الفيدرالي الذي جاء به الدستور العراقي الجديد يواجه صعوبات في التطبيق لأن الواقع الجديد يتجاوزه. وبالرغم من أن القرار الذي تبناه مجلس الشيوخ يطالب بإنشاء ما أسماه ثلاث وحدات فيدرالية مستقلة، فالواضح أنه يقصد وحدات يجمعها اتحاد كونفيدرالي. فالفرق بين الدولة الفيدرالية والكونفيدرالية هو أن الأولى تظل دولة واحدة ولكنها تسمح لوحداتها بأعلى درجات الحكم الذاتي في كل ما يتعلق بتسيير شؤونها الداخلية، بينما يخضع كل من هذه الوحدات للسلطة الفيدرالية في السياسة الخارجية والأمنية والدفاعية فضلاً عن القضايا ذات الطابع الاستراتيجي في السياسات العامة الداخلية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. أما الثانية، فهي مقسمة إلى دول لكل منها سيادتها، ولذلك لا تخضع للسلطة الكونفيدرالية التي يقتصر دورها وصلاحيتها على ما تتفق هذه الدول على إحالته إليها. ولذلك فعندما تتحول دولة موحدة إلى دولة فيدرالية، لا يحدث تغيير جوهري فيها ولا يعتبر هذا التحول تقسيماً، بخلاف تحولها إلى اتحاد كونفيدرالي لا يقوم إلا بين دول مستقلة. وهذا يفسر الحذر الشديد الذي تعامل به الجميع تقريباً مع فكرة تحويل العراق إلى اتحاد كونفيدرالي، منذ أن أطلت في ظل تعثر بناء النظام الفيدرالي الجديد. ولذلك ظلت هذه الفكرة محدودة التداول، وبدت كما لو أنها شبح يحوم في سماء العراق، ولكن من على بُعد. فكان الحديث؛ أي حديث، عن تقسيم العراق يثير هلعاً وليس فقط خوفاً لدى قطاعات واسعة في داخل العراق، وفي المنطقة على حد سواء. وبالرغم من أن النظام الكونفيدرالي يحافظ على رباط ما بين وحداته، إلا أنه شديد الوهن والهشاشة. فهذه الوحدات تعتبر مستقلة استقلالاً كاملاً، ويمكن لكل منهما الانضمام منفرداً إلى الأمم المتحدة إلى جانب الاتحاد نفسه. ويبدو هذا الاتحاد أقرب إلى مظلة، أو إلى إطار عام يتوقف دوره على ما تتفق الدول الأعضاء فيه على أن تعهد به إليه. ولذلك يمكن أن يكون اتحاد من هذا النوع تطوراً إيجابياً عندما تتفق مجموعة من الدول التي تجمعها قواسم مشتركة على إقامته لتدعيم التعاون بينها والوصول به إلى مستوى أعلى. وربما يؤدي التطور الطبيعي للاتحاد الأوروبي عند مرحلة أكثر تقدماً إلى نوع من الكونفيدرالية. وفي مثل هذه الحالة تكون الكونفيدرالية نقلة إلى الأمام. وبهذا المعنى، يجوز أن نحلم بكونفيدرالية عربية في مستقبل ما غير منظور حين تبرأ دولنا ومجتمعاتنا وشعوبنا من الأمراض التي تدفع الكثير منها إلى الوراء، وليس إلى الأمام. أما أن يحدث العكس، بمعنى أن تتحول دولنا الموحدة أو بعضها إلى اتحادات كونفيدرالية، فهذه خطوة أخرى ولكنها كبيرة وخطيرة إلى الخلف. ومع ذلك، بدأت فكرة الكونفيدرالية في العراق تلقى اهتماماً أكبر من ذي قبل. فبعد أن كانت محدودة التداول مستبعدة إلى حد كبير من سيناريوهات المستقبل العراقي، أصبحت مطروحة ليس فقط للمناقشة في منابر إعلامية وأكاديمية، ولكن أيضاً في دوائر صنع القرار الأميركي. ولا يعني ذلك أنها أصبحت سيناريو مرجحاً أو قابلاً للتنفيذ. ولكن لا يمكن القول، في الوقت نفسه، أنها مازالت مستبعدة من سيناريوهات المستقبل. فأنصارها في الولايات المتحدة يزدادون، وبعضهم يرى فيها المخرج الوحيد مما يعتبرونه "مستنقعاً" غرقت فيه حكومتهم وقواتهم واستُنزفت فيه- ومازالت- مواردهم. ومنطق هؤلاء بسيط للغاية وهو أن فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث دول يجمعها اتحاد كونفيدرالي قد لا تكون هي الأفضل، ولكنها تمثل الحل الوحيد لوقف العنف الدموي والفرصة التي لا يبدو أن هناك غيرها لإنهاء مأساة سياسية وإنسانية مؤلمة. ولا يشغل أنصار الكونفيدرالية في العراق أنفسهم بتفاصيل تبدو لهم مزعجة ومملة من نوع الضمانات التي تنطوي عليها فكرتهم لوقف العنف. فالتقسيم لن يحول دون استمرار الاختلاط الطائفي والعرقي في "الدولة الشيعية" و"الدولة الكردية" بصفة خاصة. فهم يظنون، فيما يبدو، أن هذا الاختلاط مقصور على بغداد التي يجعلونها مقراً للسلطة الكونفيدرالية ولا يضمونها، بالتالي، إلى أي من الدول الثلاث. ولذلك فهم لا يشغلون أنفسهم بكيفية مواجهة العنف الذي قد يزداد، ولا يقل. وهذا احتمال كبير لأن التقسيم يغري بتصعيد عمليات التطهير الطائفي والعرقي. وإذا حدث ذلك، فما الذي يبقى جامعاً بين الدول الثلاث، ومبرراً، بالتالي، لوجود اتحاد كونفيدرالي؟ هذا النوع من الأسئلة، ومثله كثير، بعيد عن اهتمام أصحاب مشروع الكونفيدرالية. فهم يظنونه حلاً سحرياً. وهو قد يكون كذلك ولكن بالنسبة للولايات المتحدة، وليس للعراق. ومع ذلك، يجدر بنا الانتباه إلى أن فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث دول يجمعها اتحاد كونفيدرالي مطروحة في دوائر أكاديمية وفكرية بعيداً عن السياسيين الأميركيين المهمومين بمصالح بلادهم دون غيرها. ولدى بعض هؤلاء الأكاديميين والمثقفين، وبعضهم أوروبيون وليسوا فقط أميركيين، منطق أقوى وأعمق يستحق الالتفات إليه بجدية دون أن يعني ذلك التسليم به أو قبوله. وهم ينطلقون من أن الوضع في العراق الآن يشبه، في خطوطه العريضة دون تفاصيله، ما كان عليه في الهند قبل تقسيمها. ويرون أنه إذا أردنا القياس على حالة تاريخية، فلتكن الهند وليست فيتنام. وهم يقصدون، بذلك، الهند بعد العام 1945 عندما أصبح على القوات البريطانية أن تعمل للفصل بين الطوائف المتنازعة، وواجه الأدميرال "لويس ماونتباته" آخر نائب للملك في الهند وضعا يعمل ضد مشروع إقامة دولة هندية موحدة. ويقول التاريخ إن الإنجليز قرروا الرحيل بسرعة شديدة عندما وصل حزب "العمال" إلى السلطة، فاندلعت الحرب الأهلية في شبه القارة الهندية وانشطرت الهند إلى قسمين ثم ثلاثة ولكن بعد معارك أهلية طاحنة راح ضحيتها مئات الألوف. هذا التاريخ هو ما يحذر هؤلاء من إعادة إنتاجه في صورة جديدة إذا دخل رئيس (أو رئيسة) إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2009 وقرر الانسحاب بسرعة. وهم يجادلون بأن الحرب الأهلية التي ستتصاعد، إذا حدث ذلك، قد تؤدي إلى تقسيم العراق في النهاية. وهم يرتبون على ذلك نتيجة مفادها أن من الأفضل الشروع في هذا التقسيم بطريقة يسمونها "جيدة ومنظمة وسلمية" مع السعي إلى الحفاظ على حد أدنى من المشتركات عبر صيغة الاتحاد الكونفيدرالي؟ وبالرغم من أن منطق هؤلاء جدير بالنقاش، تظل نقطة الضعف الجوهرية فيه هي عدم وجود ما يضمن أن يؤدي التقسيم إلى إنهاء العنف. غير أن المهم في هذا كله هو أن فكرة تقسيم العراق أصبحت حاضرة، وقد يزداد حضورها، وربما تفرض نفسها. فماذا نحن فاعلون ؟