في الاقتصاد العالمي اليوم يمكن للناجحين أن يتحولوا في رمشة عين إلى خاسرين، والعكس صحيح. فمنذ وقت ليس بالطويل كان الخبراء الاقتصاديون الأميركيون يروجون بنوع من التعالي لفكرة التفوق الاقتصادي الأميركي على أوروبا، "العجوز المعتلة". لكنه وضع مختلف تماماً تشهده أوروبا اليوم بعد التأثير السلبي لما يجري في العراق على سوق الأسهم الأميركية، وأزمة الرهن العقاري، فضلاً عن العجز الكبير الذي تشهده الموازنة والميزان التجاري، وتراجع نسبة النمو في الإنتاج إلى درجة أصبح المراقبون ينتظرون الأسوأ بالنسبة للاقتصاد الأميركي. وفي الوقت نفسه يشير المحللون إلى اقتصاديات الصين والهند الصاعدة باعتبارهما النقط المضيئة الوحيدة في سماء الاقتصاد العالمي. لكن ماذا عن أوروبا؟ فقد تندهش للنجاح الذي حققه شركاؤنا على الضفة المقابلة للأطلسي، وكيف استطاعوا تفنيد مجموعة من الأساطير الموغلة في التشاؤم حول الاقتصاد الأوروبي، وهي الأساطير التي نرد عليها في النقاط التالية: الأسطورة الأولى تقول إن الاقتصاد الأوروبي المتكلس غير قادر على قيادة العالم. وأرد عليها من هو المتكلس؟ فقد نجح اقتصاد الاتحاد الأوروبي الذي يصل حجمه إلى 16 تريليون دولار في مواصلة نموه طيلة الفترة السابقة ليصبح أكبر كتلة تجارية في العالم، مشكلا ثلث ما ينتجه الاقتصاد العالمي. وهو أكثر من الاقتصاد الأميركي(27%)، أو الاقتصاد الياباني (9%). ورغم كل الحديث عن الصين، إلا أنها مازالت قزماً اقتصادياً بالمقارنة مع الأرقام السابقة، حيث لا تسهم سوى بـ 6% في الاقتصاد العالمي، بينما الاقتصاد الهندي أصغر من ذلك. والواقع أن الاقتصاد الأوروبي لم يكن أبداً بالسوء الذي يتصوره المتشائمون. ففي الوقت الذي كان فيه الاقتصاد الأميركي يستعيد عافيته في الفترة ما بين 2000 و2005 مدعوما بسهولة الاقتراض، والمضاربات في السوق العقاري، كانت الدول 15 الرئيسية للاتحاد الأوروبي تحقق معدلات نمو اقتصادي للفرد يساوي المعدلات نفسها في الولايات المتحدة، بل تمكنت أوروبا من تخطي معدلاتنا في نهاية 2006. كما نجحت أوروبا في خلق وظائف جديدة بمعدلات أكبر، وقلصت معدل عجز موازنتها بالمقارنة مع الولايات المتحدة، فضلاً عن أنها استفادت من معدلات أعلى للإنتاجية، وفائض تجاري يقدر بثلاثة مليارات دولار. الأسطورة الثانية تقول: إنه لا أحد يريد الاستثمار في الشركات الأوروبية واقتصادياتها بسبب ضعف المنافسة. مرة أخرى هذا كلام غير صحيح. ففي الفترة ما بين 2000 و2005 شكل الاستثمار الخارجي في الدول 15 الأساسية للاتحاد الأوروبي نصف الاستثمارات العالمية، كما تفوقت عائدات الاستثمارات في أوروبا على نظيرتها في الولايات المتحدة. وقد عبر عن ذلك "دان أوبراين" من مجلة "الإكونوميست" قائلا "أصبحت أوروبا القديمة قطباً استثمارياً لأنها السوق الأكثر إداراً للأرباح". والحقيقة أن الشركات الأميركية هي أكبر المستثمرين في أوروبا، حيث حققت فروع الشركات الأميركية في الدول لاتحاد الأوروبي 85 مليار دولار من الأرباح في العام 2005، وهو أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، وأكبر بـ26 مرة من قيمة الأرباح التي حققتها في الصين والمقدرة بحوالي 3.3 مليار دولار. وانسوا تلك الفكرة القديمة والمتجاوزة عن التنافسية الاقتصادية التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي. فحسب مقياس المنتدى الاقتصادي العالمي للتنافسية تحتل دول أوروبية المواقع الأربعة الأولى، سبع منها ضمن العشر دول الأولى، و12 منها ضمن العشرين دولة الأولى خلال 2006-2007. وقد احتلت الولايات المتحدة المرتبة السادسة، بينما الهند جاءت في المرتبة 43، والصين في المرتبة 54. الأسطورة الثالثة: أوروبا هي أرض البطالة المرتفعة. وأقول ليس بعد الآن، حيث استطاعت كافة دول الاتحاد الأوروبي الوصول إلى التشغيل الكامل خلال العقد الأخير، كما أن معدلات البطالة في أوروبا ظلت منخفضة مقارنة بالمعدلات ذاتها في الولايات المتحدة. ويضاف إلى ذلك أن معدل البطالة في مجمل الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الدول الناشئة في وسط أوروبا وشرقها، انخفض إلى معدل قياسي بلغ 6.7%. وحتى فرنسا المعروفة بنسبة البطالة المرتفعة استقر معدلها في 8%، وهو الأقل منذ 25 سنة. وإذا كانت تلك النسب أكبر من نظيرتها في الولايات المتحدة المقدر بحوالي 4.6%، لكن علينا ألا ننسى بأن العديد من الوظائف المستحدثة في أميركا تدفع رواتب ضعيفة ولا توفر أي امتيازات أخرى. ففي أوروبا مازال العاطل يستفيد من الرعاية الصحية، ومن برامج تدريبية للحصول على العمل، فضلاً عن إعانات السكن. وفي المقابل قد ينتهي العاطل في الولايات المتحدة إلى الفقر والتهميش. الأسطورة الرابعة: دولة الرعاية الأوروبية تعيق الأعمال وتضر بالاقتصاد. عند تفنيد هذه المقولة، علينا أن نحترس من الفرضيات الأيديولوجية. فبينما واصل الاقتصاد الأوروبي نموه حافظ في الوقت نفسه على العدالة والمساواة؛ إذ خلافا للولايات المتحدة بفوارقها الشاسعة والافتقار إلى الرعاية الصحية للجميع، والتعليم العالي ركز الأوروبيون جهودهم الاقتصادية على خلق ثروة تستفيد منها شرائح واسعة. فالأوروبيون مازالوا يتمتعون بالامتيازات الاجتماعية التي ترافقهم من المهد إلى اللحد في العديد من المجالات مثل الرعاية الصحية ذات الجودة العالية، وإجازتي المرض والولادة المدفوعتين، وتعليم عال مجاني، أو شبة مجاني، فضلا عن معاشات تقاعد مجزلة ومواصلات عامة جيدة. كما يستفيد الأوروبيون من إجازة سنوية تمتد على مدى خمسة أسابيع مدفوعة الراتب مقارنة مع أسبوعين بالنسبة للأميركيين. والواقع أن النظام الاقتصادي في أوروبا هو أقرب إلى "دولة العمل" منها إلى دولة الرعاية"، حيث تجند المؤسسات للحفاظ على صحة العمال واستمرارهم في العمل. وبهذا المعنى يمتزج الاقتصاد الأوروبي مع النظام الاجتماعي ليصبحا وجهين لعملة واحدة تسمى "الرأسمالية الاجتماعية". الأسطورة الخامسة: ستبقى أوروبا رهينة لروسيا والشرق الأوسط في تأمين احتياجاتها من الطاقة. وأرى أن التركيز على هذه النقطة ينطوي على مبالغة. فحتى لو كانت أوروبا تعتمد على روسيا والشرق الأوسط في الحصول على الطاقة، إلا أنها أيضا تبذل جهدا كبيراً لتقليل اعتمادها على الطاقة ومحاربة الاحتباس الحراري. ففي شهر مارس الماضي اتفق قادة الدول 27 في الاتحاد الأوروبي على الوصول إلى 20% من استهلاكهم الطاقي بحلول 2020 اعتماداً على مصادر الطاقة البديلة. فهل بعد كل ذلك مازلت أوروبا "العجوز المعتلة"؟ ستيفن هيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير برنامج الإصلاح السياسي في مؤسسة "أميركا الجديدة" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"