تأتي الأيام وتذهب، تَفتَحُ أفقاً ما يلبث أن ينغلق، وتراوحُ فلسطين المغتصبة مكانها ويدور دولاب الزمن ليقف من جديد على ما يشبه سراباً بقيعة يتمسَّك به من لا يزال يعتقد أن حقه المسلوب يمكن أن يُستردَّ في جلسة مَنادَمة لا ينفع بعدها ندم. أكثر من نصف قرن مرت ودار لقمان ما زالت على حالها من الشتات والمعاناة رغم المسارات العديدة التي اتخذتها القضية الفلسطينية. لقد جال بها قادتها الأولون أصقاع المعمورة وصالوا بها في المحافل الدولية حتى أضحت لا تُذكر إلا وتُردف معها الشرعية الدولية الغائبة اليوم عن أهلها. وقد بَنَت لنفسها صورة الحركةِ التي تجمع بين العمل السياسي والدبلوماسي المستند إلى الشرعية الدولية وبين النشاط الثوري باعتبارها حركة تحرُّر أساساً، وهو ما جعلها حاضرة في كل المنتديات وإن خبا نجمها في السنوات الأخيرة في ظل التطورات الدولية التي جعلت مسائل أخرى تقفز إلى بؤرة الاهتمام جعلت القضية الفلسطينية تتوارى وتتراجع كثيراً حتى على المستوى العربي بسبب ما غدت عليه العلاقات العربية العربية نفسُها من تشرذم وقطريَّة ضيقة لم تعد تسع قضيتهم المركزية أو لم يعودوا راغبين في أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. ألم ينتظر اللاجئون الفلسطينيون الهاربون من جحيم العراق حتى تتدخل البرازيل من آلاف الأميال لتنتشلهم من الضياع وتمنحهم هوية بعد أن خنقتهم الحدود "العربية" ولفَظَتهم؟ ولعل المنعطف المهم في هذا السياق بدأ بعد تحرير الكويت الذي كشف عن أن مفتاح الحل بيد المجتمع الدولي والولايات المتحدة بوجه خاص، حيث كان اختبار الكويت ناجحاً للشرعية الدولية مما حدا بالفلسطينيين إلى الوثوق في هذه الجهات لتحقيق مطالبها في إقامة دولة فلسطين، كما أنه بعث بالاطمئنان إلى الجانب الإسرائيلي بما أن الشرعية الدولية تحفظُ سيادة أعضاء المجتمع الدولي، وهو ما يجعل إسرائيل لا تخشى على وجودها المادي باعتبار أن كل اعتداءٍ على سيادة الدول يعد عملاً غير شرعي يستوجب قيام المجتمع الدولي بحماية السيادة بموجب ميثاق الأمم المتحدة. وقد جعل هذا الأمر الفلسطينيين يؤمنون بأنه حان الوقت لتقديم الحل السياسي على الكفاح المسلح الذي لم تعد وسائله قادرةً على تحقيق الحسم. ومن ثم تمسكوا بأية قشّة وإن كانت لا تحمِلُهم بالضرورة إلى بر الأمان. لن نغرِق في التحليل الأكاديمي وإلا دُرنا في حلقة مفرغة لأننا سننتهي إلى حيث بدأنا. ومع ذلك، لسائل أن يسأل لم لا يقضي أحد الطرفين على الآخر؟ ولماذا هذه المؤتمرات وحلقات الصراع بين الطرفين؟ تأخذنا هذه التساؤلات إلى جدلية الهوية بين الطرفين، وهي التي تنطوي على ثنائية التصادم بينهما وتحقيق الوحدة داخل الهوية الواحدة، وذلك باتباع أدوار من الصراع والتفاوض والصدام المؤقت، فالإسرائيليون في حاجة إلى الهوية الفلسطينية لتحصين هويتهم، إلا أن الهوية الفلسطينية ليست بنفس القدر من الحاجة إلى نظيرتها الإسرائيلية لما تملكه من مقومات مرتبطة بالتاريخ والجغرافيا، ولكونها تنتمي إلى الهوية العربية. وتأتي هذه المؤتمرات والمفاوضات لتعكس حاجة الهويتين إلى هذا الدور في هذه المرحلة من الصراع، وقد تلجآن إلى الصدام في مرحلة أخرى تقتضيها ظروفهما في تلك المرحلة، لأن الدور يختلف باختلاف حاجة الهوية إلى دور تفاوضي أو صراعي أو صدامي أو حتى إلى استقرار نسبي. لقد دخلت القضية الفلسطينية مرحلة ما يمكن أن نُطلق عليها مرحلة مؤتمرات السلام التي أَلِفها الفلسطينيون وهرَّب العربُ إليها أنفسهم ليُلقُوا بالحمل على غيرهم أكثر من سعيهم إلى "الحل الدائم" نفسه، ولا دائم هنا سوى هذه الدعوات إلى مؤتمرات سلام لا تأتي إلا بعد أن يصيب الوهن الجسد الفلسطيني، فيذهب إليه صاغراً وهو يعلم ألا حول ولا قوة له كما لو أنه يريد كل مرة إقامة الحجة التي أصبحت في الواقع على العرب جميعا لا لهم. لا شك أن الحديث إلى طرف فلسطيني واحد ضعيفٍ أصلاً هو عملٌ على كسر الشعب الفلسطيني والتمييز بين أخيار ينصتون إلى ما يُقال لينالوا به كريم المأكل وبين أشرار مارقين يذيقونهم كريه المطعم. وهذا مؤتمر آخر على الأبواب يستعجله ذوو الأمر والنهي لأن لهم فيه مرامي أخرى غير البحث عن حل دائم للفلسطينيين، فلكما لاحت الحركات الراديكالية المختلفة وتقدم تحرك سياسي فلسطيني لأجل الشعب ورَغِبة دول المنطقة في خلق استقرار ينعكس عليها وعلى المستوى الدولي في شتى المجالات سعوا إلى احتواء الوضع الراهن المتردي والمحتقن بوعود ومقايضات لا تنطلي إلا لفترات زمنية قصيرة، وتتجدد مادام هناك خطوط حمر بين الطرفين لا يمكن تجاوزها مثل حق عودة اللاجئين ومصير مدينة القدس والحدود...، إلى هضبة الجولان ذات البعد الجيوسياسي العسكري الأمني..، فواشنطن بالمنطقة تحاول بعث حلقة لإيجاد سبيل لحل أهم حلقة صراعية تزعزع الاستقرار والأمن لها أن تقود إلى وضع أكثر تردياً وراديكالية من أحزاب ومليشيات وعقائد وأنظمة وسياسات مما هو عليه، ولن تكون هذه المحاولة الأخيرة، ولِنعود إلى البداية لنُدحرِج كرة الثَّلج من جديد لأنها ببساطة ذابت عندما وصلنا إلى قاعة المؤتمر! أيها السادة، إليكم بيان المؤتمر، تنديد بالإرهاب والمتطرفين ووعد بالعمل على تجاوز العقبات التي تقف في وجه تحقيق السلام في الشرق الأوسط وتعهد بتمويل الفلسطينيين في رام الله وإطلاق بعض الأسرى إلى آخر ما في جعبة المؤتمرين من منطق مُبطَّن يعمل على تخفيف المقاومة ويحفز لسبل تفاوض ومقايضة من جديد وباسم السلام وما السلام هذا إلا حلقة أصبحت متناهية المطلب والأهمية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط. من مدريد إلى أوسلو إلى ميريلاند، قطعت القضية الفلسطينية مسافة طويلة صعوداً إلى الأسفل، رغم كل التنازلات، لأن المنطق يقول كلَّما تنازلْت زاد طمعُ الخصم فيك وأكل ذراعك كلَّها، وذراعنا ليست طويلة وإن تطاولت فيما بيننا. وأخيراً، وليس آخراً، لقد أصبح الخوض في أمر فلسطين مدعاة للتكرار واجترار تاريخها المثقل بالهموم إلى حدِّ الملل، كما لو أن الجميع حفظوا الحكاية التي تبدأ باغتصاب الأرض وتنتهي بالتسوُّل على أبواب المغتصِب من أجل التستُّر على الفضيحة... ربما كان هذا هو ما يهدفُ إليه من بيدهم الحل والربط في عالمٍ لم يعد يعنيه تأوهٌ أو أنين، فقد أُورِدَ الفلسطينيون واديا سحيقاً لم يعودوا يسمعون فيه حتى نحيبَهم.