كنتُ قد كتبتُ في هذه الصفحة بعد أن أعلن الرئيس الأميركي نية الدعوة إلى اجتماع -لا يدري أحد كيف اكتسب لاحقاً تسمية "مؤتمر"- يعقد هذا الخريف برئاسة وزيرة خارجيته، وتحضره دول الجوار، بهدف إحياء السلام وفق حل الدولتين، وذهبت إلى أن توقيت دعوة بوش لا يمكن أن يكون أسوأ من هذا التوقيت، فالإسرائيليون والفلسطينيون أضعف من أن يقدّموا على تنازلات جوهرية، وهو نفسه أضعف من أن يضغط على إسرائيل للقيام بالتحركات المطلوبة كي يتحقق السلام، وانتهيت إلى تشبيه الاجتماع المزمع بـ"مأدبة اللئام" التي يحرم فيها الأيتام من الطعام، أو يحصلون على الفتات "لكن مأدبة الخريف القادم لن يكون فيها طعام ولا فتات" منتهياً إلى مطالبة بمراجعة للسياسات العربية والفلسطينية الفاشلة حتى الآن، وبلورة رؤية جديدة للمستقبل تكشف إفك بوش ومن معه. لم يكن في هذا التقييم فيما يبدو أدنى مبالغة، بدليل أن القلق قد اعترى كافة المسؤولين في الدول العربية المعنية إزاء الفكرة، فأخذوا يعربون عن تحفظاتهم على الاجتماع أو المؤتمر الموعود الذي لا يعرفون له مكاناً أو تاريخاً أو عنواناً أو جدول أعمال أو تصوراً لنتائج يفضي إليها. ووصل الأمر بوزير خارجية السعودية إلى التلويح بعدم حضور المؤتمر، كما أن وزير الخارجية المصري أشار غير مرة إلى أن مصر لم تقرر بعد مشاركتها. وبلور المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية الذي انعقد في الخامس من سبتمبر الماضي الموقف العربي من المؤتمر في تأييد حضوره بشرط مشاركة الأطراف المعنية كافة، وهي سوريا ولبنان وفلسطين، بهدف إطلاق مفاوضات شاملة لجميع المسارات، والبناء على ما تم إنجازه، والدخول في مفاوضات مباشرة حول قضايا الوضع النهائي في إطار زمني محدد، وأن تكون مبادرة السلام العربية هي مرجعية الاجتماع. بدا الموقف العربي على هذا النحو متوازناً، فهو لا يتشنج برفض للمؤتمر وفكرته، وإنما يقبلها قبولاً مشروطاً، غير أن الإيضاحات الأميركية اقتصرت لاحقاً على استجابة خجولة لفكرة حضور سوريا ولبنان، وإن بدأت المناورات الدبلوماسية المعتادة لإفراغ الشروط العربية من جوهرها. ففي مواجهة المطلب العربي بضرورة شمول المفاوضات جاءت الإيضاحات الأميركية شديدة التهافت، فقد كشف وزير الخارجية المصري في الخامس من أكتوبر الجاري أن الإدارة الأميركية ترغب في تسوية شاملة للصراع العربي- الإسرائيلي من خلال "مسارات ثنائية" للتفاوض وليس مفاوضات متعددة الأطراف، وأنها ترغب في التركيز على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي باعتباره منطلقاً ومقدمة للسلام الشامل. تبدو المناورة إذن شديدة الوضوح. لتكن المفاوضات شاملة كما يريدها العرب، ولكن ليس على نحو ما يتمنون (مؤتمر جماعي) وإنما بتجزئة هذا الشمول في التناول إلى مسارات ثنائية، مع أن بعض قضايا الصراع -كقضيتي اللاجئين والمياه تحديداً- لا يمكن مناقشته في مسارات ثنائية، غير أن المناورة تكتمل عندما تبدي الإدارة الأميركية حرصاً على البدء بالتركيز على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي باعتباره منطلقاً لعملية السلام الشامل. وهكذا تتضح أبعاد الرؤية بالنسبة للمؤتمر القادم: نعم سوف يكون جدول أعماله شاملاً، ولكن على أساس ثنائي، وسيتم البدء بالمسار الفلسطيني- الإسرائيلي وبعدها يكون لكل حادث حديث، والحصيلة كما يبدو الأمر واضحاً شديد الوضوح لن تكون إلا صفراً كبيراً. لنفترض مع ذلك أن العرب قد قبلوا هذا الجزء من المناورة الأميركية، وقنعوا بأن نقطة الانطلاق الحقيقية نحو السلام هي اختراق ينجزه المؤتمر للمسار الفلسطيني- الإسرائيلي، فما الذي أعدته الإدارة الأميركية في هذا الخصوص؟ لا توجد لدينا سوى إيضاحات بأن واشنطن مصممة على بحث القضايا الأساسية للصراع (القدس واللاجئون والحدود في المؤتمر)، وأنها تنوي عقد سلسلة اجتماعات لمتابعة النتائج التي سيتمخض عنها المؤتمر، ولا بأس بهذا إن كان المؤتمر سيصل إلى شيء "مضموني" حول قضايا الوضع النهائي يمكن متابعته، فكل محاولات التسوية السابقة من كامب ديفيد 1978 إلى أوسلو 1993 إلى خريطة الطريق 2003 لم تتضمن سوى الإشارة إلى ضرورة البدء في التفاوض حول قضايا الوضع النهائي وفق توقيتات محددة، ودون ذكر لأي موجِّهات أو خطوط عامة للحلول المنتظرة لهذه القضايا، وفي كل الأحوال لم تتم المفاوضات، ولا التوصل إلى شيء محدد بداهةً حول قضايا الوضع النهائي، فهل يكون لمؤتمر الخريف السبق في هذا المجال؟ لا يمكن بطبيعة الحال أن نعثر على إجابة لهذا السؤال دون أن نبحث في الموقف الإسرائيلي. منذ البداية كان أولمرت يصر على أن ينتهي المؤتمر بـ"اتفاق إعلان مبادئ" توخياً لعمومية لا تلزمه في شيء، ووصل به الأمر وفقاً لمسؤول فلسطيني مطلع إلى المطالبة بـ"إعلان مصالح مشترك"، وواضح أنه لا يريد أكثر من بيان سياسي عام يتبناه مؤتمر الخريف، وهو غير قادر على أكثر من ذلك. فهو في انتظار تقرير آخر للجنة "فينوجراد" حول مسؤوليته عن فشل الحرب على لبنان، ولديه في ائتلافه الحاكم وزراء متطرفون، وآخرون طامحون إلى خلافته، ناهيك عن معارضيه خارج الائتلاف المتربصين لأي هفوة جديدة له، وهو لا يمكنه والحال كذلك أن يخاطر بتقديم أي تنازل يمكن أن يقوض مزيداً من شعبيته -إن بقيت له شعبية- حتى ولو كان مقابل هذا التنازل هو مزيد من التطبيع مع الدول العربية وبالذات المملكة العربية السعودية إن هي حضرت المؤتمر. في هذا الإطار توصل أولمرت وعباس في لقائهما الأخير في الثالث من الشهر الجاري إلى صيغة عبقرية في استخفافها بالعرب، فقد اتفقا على إقرار "وثيقة مشتركة" تشكل أساساً للمفاوضات "بعد" مؤتمر الخريف، وذلك بعد أن رفض أولمرت دعوة عباس إلى وضع جدول زمني محدد لحل قضايا الوضع النهائي، وقال مسؤول إسرائيلي مطلع "بعد مؤتمر الخريف سيبدأ الجانبان التفاوض على اتفاق نهائي بدون جدول زمني" في نكوص واضح عن تقليد وضع أمد زمني للتفاوض حول قضايا الوضع النهائي الذي أرسته كامب ديفيد 1978 وأوسلو 1993 وخريطة الطريق 2003. وإذا كان الإطار الزمني المحدد لم يتم احترامه في هذه السوابق الثلاث فما بالنا بمفاوضات تجرى دون أفق زمني أصلاً؟ هكذا يمكن لأي طفل صغير أن يلملم أجزاء صورة مؤتمر الخريف، فهو مؤتمر قد تحضره سوريا ولبنان، ولكنه لن يكون مهيأً بحال لبحث شامل في قضايا الصراع، وإنما لتناول مساراته الثنائية مع الاقتصار في البدء على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي لإحداث "الانطلاقة" المرجوة لعملية السلام، والتي لن تعدو أن تكون موافقة المؤتمر على وثيقة مشتركة شديدة العمومية يتفق عليها الفلسطينيون والإسرائيليون قبل المؤتمر دون دخول في أي تفاصيل بصدد مضمون حلول قضايا الوضع النهائي، ثم تبدأ المفاوضات الحقيقية بعد انتهاء المؤتمر ودون إطار زمني. أيكون من المبالغة أن نسمي هذا وفقاً لبعض المصطلحات الشعبية المصرية دبلوماسية اللعب بالبيضة والحجر، أو دبلوماسية الثلاث ورقات؟ فلم يحدث في تاريخ محاولات تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي كله أن تم تناول قضاياه المحورية بمثل هذا الكم من الهزل الذي لا يجد له تفسيراً إلا محاولة ستر إخفاقات الإدارة الأميركية في العراق وخططها الخطيرة تجاه إيران بورقة توت. كم يتمنى المرء مخلصاً أن يقدم المسؤولون العرب المعنيون -وقد لوحوا غير مرة بعدم رضاهم عن هذا الهزل- على إطلاق رصاصة الرحمة على مؤتمر الخريف، فإن لم يفعلوا تعين عليهم كحد أدنى أن يطالبوا بتأجيل المؤتمر، على أن يكون مفهوماً أن هذا التأجيل لا يعدو أن يكون صيغة إلغاء للمؤتمر لا تريق مزيداً من ماء وجه الإدارة الأميركية الذي أريق الكثير منه في العراق وأفغانستان وغيرهما. لأن مؤتمراً كهذا لا يمكن أن يعقد ويفشل دون أن يؤدي إلى تداعيات بالغة الخطورة في منطقة لا تنقصها الحرائق. وعلى هؤلاء المسؤولين أن يفكروا ولو مرة واحدة في الأخذ بزمام المبادأة، والالتفات إلى الأولويات العربية بعيداً عن أوهام الخريف: إعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية والتماسك العربي من أجل ألا يستخف أحد بنا كل هذا الاستخفاف.