يتعرض الجنس البشري منذ بداية العصر الحديث، لتغيرين أساسيين في تركيبته الديموغرافية، عملا على إعادة تشكيل المجتمعات البشرية بشكل غير مسبوق. ويتمثل هذان التغيران في التزايد المستمر في أعداد المسنين في المجتمعات الحديثة، وهي الظاهرة المعروفة بـ"تشيُّخ المجتمعات" (Population Ageing)، والمترافقة مع زيادة مماثلة في النسبة الإجمالية من البشر الذين أصبحوا يقطنون المدن الكبرى، وهي الظاهرة المعروفة بالتمدُّن أو التحضر (Urbanization). أما النتيجة الإجمالية لهاتين الظاهرتين، فهي أن عدد المسنين الذين أصبحوا يقطنون المدن حالياً، هو الأعلى على الإطلاق في التاريخ البشري. وأمام هذا الوضع، أطلقت منظمة الصحة العالمية بداية هذا الأسبوع، وضمن الاحتفالات العالمية بيوم المسنين، أول دليل عن تخطيط وتصميم وتجهيز المدن الصديقة للمسنين (age-friendly cities). وتم إصدار هذا الدليل بناء على استشارات مكثفة مع ثلاث وثلاثين مدينة، في اثنتين وعشرين دولة حول العالم، مثل اسطنبول، ولندن، وملبورن، ومكسيكو سيتي، ونيروبي، ونيودلهي، ونيويورك، وريو دي جينيرو، وشنغهاي، وطوكيو، وغيرها. وتركزت تلك الاستشارات حول الاعتبارات الأساسية الواجب اتباعها، من ناحية التخطيط المعماري الهندسي، وتوفر الدعم الاجتماعي، وهيكلة الخدمات بشكل يتناسب مع قدرات واحتياجات المسنين. وقبل أن نتطرق للتوصيات التي خرج بها دليل تخطيط المدن الصديقة للمسنين، ينبغي أولاً أن نستعرض مدى حجم ظاهرتي تشيُّخ المجتمعات، والتمدن. فبالنسبة للظاهرة الأولى، تشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 650 مليون شخص حالياً فوق سن الستين، وهو العدد المتوقع له أن يزداد إلى مليار ومئتي مليون بحلول عام 2025، ليصل إلى ملياريْ شخص بحلول عام 2050. وبحساب توقعات نمو الجنس البشري خلال هذه الفترة، سيصبح واحد من كل أربعة من أفراد الجنس البشري ضمن من هم فوق سن الستين. أما بالنسبة لظاهرة الحياة ضمن المدن الكبرى، فتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من نصف أفراد الجنس البشري يعيشون حالياً ضمن نطاق المدن، وبحلول عام 2030 يتوقع لهذه النسبة أن تزداد إلى ستين في المئة، أو ثلاثة من كل خمسة من البشر. وبإضافة تأثير هاتين الظاهرتين على بعضهما بعضاً، يمكن أن نستنج بسهولة، أن مئات الملايين من المسنين سيتخذون المدن كموطن في المستقبل القريب. وهذه النتيجة لابد وأن تدفعنا لإعادة التفكير في الطريقة التي نخطط ونصمِّم بها المدن، وأن نعيد حساباتنا في كيفية وسهولة الخدمات التي سيتطلبها هؤلاء السكان الجدد، وأن نأخذ في الاعتبار احتياجاتهم البدنية والاجتماعية. وهي الأهداف التي يسعى الدليل الصادر مؤخراً عن منظمة الصحة العالمية لتحقيقها، من خلال زيادة الوعي والإدراك بين مخططي المدن بهذا التغير الديموغرافي المستمر، بالإضافة إلى نشر الوعي بين المسنين أنفسهم، حتى يتمكنوا من متابعة التزام مدنهم بالتوصيات المقترحة، وربما تشكيل جماعات ضغط سياسية واجتماعية للدفع باتجاه تنفيذ تلك التوصيات. وبناء على أن اصطلاح "هندسة المدن الصديقة للمسنين" يعتبر جديداً على الكثيرين، سنعدد هنا بعض التوصيات المتضمنة في دليل منظمة الصحة العالمية، التي على رغم بساطتها، يتوقع لها أن تترك أثراً كبيراً في حياة المسنين، وفي أمنهم وسلامتهم. ومن هذه التوصيات، نذكر: 1) الحفاظ على أرصفة المشاة بحالة جيدة، مع توفير الإضاءة الكافية خلال ساعات الظلام. 2) المباني العامة يجب أن تتمتع بتسهيلات تعين المسنين والمعوقين على الدخول والخروج منها بسهولة. 3) إصدار تعليمات لسائقي الحافلات العامة، بمنح المسنين وقتاً كافياً للصعود والهبوط. 4) تخصيص عدد كافٍ من مواقف انتظار السيارات للمسنين والمعاقين. 5) تخطيط المباني السكنية، بحيث تتيح للمسنين الاندماج في المجتمع، مع الاعتناء باحتياجاتهم البدنية والنفسية الخاصة. 6) تصميم المعلومات العامة والمطبوعات الإرشادية بشكل مبسط، وباستخدام لغة سهلة الفهم بعيداً عن المصطلحات المعقدة أو الجديدة. 6) تصميم خدمات الهاتف والبيانات الاستعلامية بشكل مبسط، وإتاحة المجال للتحدث مع شخص، بدلاً من الاعتماد الكلي على أجهزة الرد الأوتوماتيكية. 7) تخطيط المدن بشكل يجعل المصالح التجارية والمحلات قريبة من التجمعات السكنية، مما لا يضطر المسن للاعتماد على وسيلة انتقال أو قيادة سيارة للوصول إليها. 8) نشر ثقافة اجتماعية ومدنية، تحترم القدرات البدينة المحدودة للمسنين، وتعمل على إشراكهم في النشاطات التجارية والثقافية والاجتماعية، بدلاً من عزلهم واستبعادهم. ولاشك أن النظرة الأولى على هذه التوصيات، تترك انطباعاً بأنها تتشابه إلى حد كبير مع التوصيات الأخرى المعنية بتخطيط وتصميم المدن بحيث تكون صديقة للمعاقين، وهو انطباع صحيح. فبخلاف أن التشيُّخ مرحلة طبيعية في حياة من يكتب لهم طول العمر، تبقى الحقيقة الإنسانية الأخرى هي أن التقدم في العمر يترافق مع انخفاض في القدرات البدنية، وأحياناً حتى العقلية. وهذا لا يعني أن نقوم باستبعاد، أو استثناء، أو تجاهل، هذه الشريحة المهمة من الفئات العمْرية المكونة للمجتمع البشري المستقبلي. فالمسنون يشكلون حالياً 11% من البشر، وهي النسبة التي يتوقع لها أن تتضاعف بحلول عام 2050. ومثل هذه الاتجاه يفرض علينا تقييم الاعتبارات التي يطرحها الواقع الحالي، مع ضرورة التخطيط للتحديات التي سيفرضها علينا مستقبل تتزايد فيه نسبة سكان المدن من أصحاب الرؤوس المتوَّجة بالشيب.