يستمر الأميركيون في تحويل العراق إلى حقل لتجاربهم في الحرب والاحتلال والفشل في بناء الدول، وآخر البدع الأميركية في هذا الاتجاه هي "التفتيت" للكيان العراقي "المُصطنع" من الأقاليم الثلاثة التي وجدت تحت الحكم العثماني: الموصل وبغداد البصرة، حيث جمع تشرشل تلك الكيانات في العراق الحديث في عشرينات القرن الماضي. وما يخشاه كثيرون الآن هو التفكير في تعميم ذلك كنموذج للمنطقة. تحول العراق في العقلية الأميركية من نموذج للحريات والديمقراطية مع بداية الحرب الأميركية، ليصبح اليوم مع تمرير مشروع قرار -غير ملزم- من مجلس الشيوخ الأميركي للسيناتور ومرشح الرئاسة "الديمقراطي" جوزيف بايدن، يقضي بتقسيم العراق، في تدخل مستغرب في شؤون بلد آخر ليتشظَّى إلى ثلاثة كيانات على أسس طائفية وإثنية وعرقية تزيد من توتر المنطقة، وترفع فرص الصراع والخلافات عراقياً وإقليمياً إلى مستويات جديدة. حيث إن مشروع القرار الذي يتصور الكيانات الثلاثة مع حكومة مركزية أضعف من الأقاليم في بغداد، تشرف على الأمن والنفط وتوزيع الثروات، سيكون، في نظر كثيرين، هو شرارة المواجهة المقبلة. إن هذا التصور الأميركي للعراق المجزَّأ يذكِّر بتجربة تطبيق النظام الكونفيدرالي الفاشل الذي اعتُمد في بداية النظام الأميركي قبل 230 عاماً، ليتم تغييره بنظام دستوري فيدرالي بعد 11 عاماً من فشله. والغريب، بل المَعيب، في مشروع تقسيم العراق المقترح، هو أن الأميركيين المُلمِّين بتفاصيل ومرارات فشل كونفيدراليتهم الخاصة، يريدون تكرار تجربة فاشلة مماثلة، ليكون على العراق والمنطقة دفع ثمن ذلك الفشل، ولتصبح فكرة التجزئة والتقسيم رائجة ومقبولة في أماكن أخرى في العالم العربي، خاصة أن المنطقة لا تملك مشروعاً يُحصِّنها من خطر مخططات التفتيت. فيما الهم الأميركي تقزَّم في العراق إلى كيفية تقليص الخسائر وتأمين الحماية للأميركيين عندما ينسحبون من العراق، وكفى. لقد عارضت إدارة الرئيس بوش، والمكونات السياسية العراقية -في توحد نادر باستثناء الأكراد- مشروع التقسيم ذلك. وقد وصفه رئيس الوزراء نوري المالكي بـ"الكارثي". كما عارضته جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي. ووصفه أمير دولة الكويت بـ"الخطر على المنطقة برمتها، ولا أحد يقبل تقسيم العراق". والخشية، كل الخشية، أن نواجه الآن -بعد 90 عاماً من "سايكس- بيكو" و"سان ريمو" مشروعاً جديداً يسعى ليس لتفتيت العراق من أجل إنقاذه -كما يريد الأميركيون إقناعنا، وكما ادعوا من قبل في حرب فيتنام- بل إلى ما هو أخطر، أي تقسيم العراق في كونفيدرالية فاشلة مبنية على خطوط طائفية مذهبية جغرافية باسم فيدرالي يسمح به الدستور العراقي لعام 2005 في "حق يراد به باطل". والخوف أن نواجه عبر العراق تنفيذاً لخطط قديمة أُعلن عنها منذ عقود، مؤداها تفتيت المفتَّت وتجزئة المجزَّأ في طول الدول العربية وعرضها، في تجسد خطير للمشروع الأميركي- الصهيوني الذي دعا منذ عقود لتفتيت وتجزئة المنطقة إلى كيانات وأعراق وأجناس. وقد حاولوا ذلك في لبنان، وهم يعودون اليوم في سعي لخلق "كانتونات" عبر تجزئة العراق والسودان، وهناك خرائط عُرضت للشرق الأوسط قبل تقسيم وتجزئة دوله وبعدهما. أما قائمة الدول المرشحة للتجزئة والتفتيت حسب المخطط، وعلى خطوط مذهبية وإثنية عرقية، ففي المقدمة منها العراق ولبنان وسوريا والسودان ومصر ودول المغرب العربي... والقائمة طويلة. وما نخشاه حقاً أن العراق اليوم بات بمثابة المختبر والشرارة التي ستفتح الكُوَّة لانهيار جدار الوحدة الوطنية، وتعميم النموذج العراقي على المنطقة، بعد أن فشل في أن يكون مثالاً للحريات والديمقراطية بسبب المحاصصة وأخطاء بريمر القاتلة من مجلس الحكم الطائفي إلى إضعاف الدولة العراقية وحل مؤسساتها وجعل الأقاليم أقوى من الدولة المركزية مما كرس روح التجزئة والانفصال والمناطقية في تجزئة باتت أصلاً "أمراً واقعاً" FACTO DEحتى قبل أن يبتدع "بايدن" خطة التقسيم. والخوف، أخيراً،أن تتحول عدوى تفتيت العراق إلى نموذج لما سيتم تعميمه لاحقاً في المنطقة، حيث يقدم التفتيت كحلٍّ لمستقبل منطقة خانعة ضعيفة ليس لديها مشروع ولا برنامج يحميها. والمؤلم أننا نعجز عن تحصين أنفسنا من تداعيات وانعكاسات الحالة العراقية بأبعادها الأمنية والسياسية والاجتماعية. وآخرها مشاريع التقسيم وتفشي الكوليرا ومخاوف من الانسحاب البريطاني على أمن الجنوب العراقي. كم كنا ساذجين عندما خشينا على العراق من "اللَّبْننة". فها نحن اليوم نخشى من عرْقنة المنطقة كلها من خلال تعميم تداعيات حالة العراق المتشظِّي والمنهار. ألم يحن الوقت للتصدِّي الجدي لمخططات التفتيت والتجزئة قبل فوات الأوان؟ وإذا لم نتحرك اليوم... فمتى؟