رغم أقوال المراقبين ونتائج استطلاعات الرأي المحترمة في أميركا، إلا أن "الانتخابات التمهيدية" (Primaries)، أي تلك التي تجرى على صعيد كل حزب بهدف انتقاء مرشحه النهائي للانتخابات الرئاسية، لم تنتهِ؛ بل إنها لم تبدأ بعد. ومع ذلك، فقد دفعت استطلاعاتُ الرأي التي أظهرت تقدم السيناتورة هيلاري كلينتون وعمدة نيويورك السابق رودي جولياني على منافسيهما البعضَ إلى وصف انتصار أحدهما أو كليهما بـ"المرجَّح". والحال أن الكثير يمكن أن يحدث، وسيحدث، لتحويل مسار السباقين "الديمقراطي" و"الجمهوري" خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. لا أقصد القول إن هيلاري وجولياني، المتقدمين في استطلاعات الرأي، ليسا في وضع جيد. كلاَّ؛ وكلاهما يعمل، بدرجات متفاوتة من النجاح، على استغلال معدلات استطلاعات الرأي لخلق هالة من الحتمية على حملتهما –و"الحتمية" هنا هي السلاح الذي يستعمله المرشحان الأوفر حظاً من أجل الحط من معنويات خصومهما، وتقوية أنصارهما، و"علاج" تشكك الأشخاص الذين لم يحسموا اختياراتهم بعد. إلا أنه لابد من التحذير في هذه المرحلة من الاعتماد المفرط على استطلاعات الرأي الوطنية: فقبل أربع سنوات من هذا الشهر، كان "جون كيري" يقبع في المرتبة الرابعة في الاستطلاعات؛ والأمر نفسه كان ينسحب على بيل كلينتون في 1991. ولذلك، فإن استطلاعات الرأي الوطنية ليست، في هذا التاريخ المبكر، مؤشرا يمكن الاعتماد عليه بخصوص نتيجة السباق، وذلك لثلاثة أسباب: - على الصعيد الوطني، مازال معظم الأميركيين لا يولون الاهتمام لهذه الانتخابات. وبالتالي، فرغم ما يقوله الأشخاص المستطلعة آراؤهم اليوم، إلا أن معظمهم لم يقرروا بعد على من سيصوتون في النهاية. - كما أن النتائج في "الولايات الأولى" يمكن أن تؤثر تأثيراً كبيراً. ولنتذكر هنا كيف بدت حملةُ هاورد دين قويةً في نهاية 2003، وكيف شكَّل فوزُ جون كيري في ولاية "آيوا" دفعةً قوية لسيناتور "ماساتشوسيتس" وجعله يتقدم على الصعيد الوطني في أوائل 2004. ولنتذكر كذلك كيف أفضى فوز جون ماكين المفاجئ في ولاية "نيوهامبشاير"، رغم التقدم الكبير لجورج دبيلو بوش في استطلاعات الرأي عام 2000 وامتيازه المالي الضخم، إلى تدفق هائل للمال واهتمام وسائل الإعلام الكبير، ما جعله قاب قوسين أو أدنى من التغلب على بوش. - ثم إن الأمر غير المتوقع يمكن أن يحدث دائماً، ما يخلق الاضطراب في الحملات الانتخابية، فخبر سلبي أو هفوة أو سؤال لا يجاب عليه بعناية، كلها أمور قد تزعزع ثقة الجمهور، وهو ما قد يحول فجأة من كان يبدو الفائز "الحتمي" ضعيفاً وهشاً. والآن دعونا نرى كيفية تقدم المرشحون في الولايات الأولى: في "آيوا"، يوجد تنافس ثلاثي على الجانب "الديمقراطي" بين هيلاري وباراك أوباما وجون إدواردز، في وقت بدأ يسجَّل فيه تقدم ملحوظ لبيل ريتشاردسون. أما على الجانب "الجمهوري"، فيبدو أن "ميت روني" متقدم على جولياني وفريد تومبسون؛ إلا أنه في ظل متنافسين يمكن أن يخلقوا المفاجأة من قبيل مايك هاكبي، ونظراً للمال الذي يتوفر عليه رون بول، فإنه يمكن القول إن السباق لم يُحسم بعد. ولكن حتى في هذه الحال، فلابد من الإقرار بأمرين آخرين. أولاً، ومثلما هو الحال في استطلاعات الرأي الوطنية، فإن ثلاثة أرباع ناخبي "آيوا" الذين شملهم الاستطلاع يقولون إن أصواتهم يمكن أن تتغير في المستقبل. ثانياَ، نظراَ لطبيعة عملية الانتخابات الأولية ونسبة المشاركة المنخفضة تقليدياً في الولاية (أقل من 10 في المئة)، فإن كل شيء ممكن. وبعبارة أخرى، فإن هذه الانتخابات في حالة تحول؛ ذلك أن الكثير من الأشياء سيحدث من الآن إلى يناير، كما أن أشياء أكثر ستحدث في يناير نفسه. يحلو لشقيقي جون زغبي، الخبير في استطلاعات الرأي، ومؤرخ السياسات الرئاسية أيضاً، أن يجيب على سؤال: "من سيفوز؟" بالقول: "لو أُجريت الانتخابات اليوم، فإن (الأوفر حظاً) سيفوز". قبل أن يضيف: "ولكن الانتخابات لن تجرى اليوم". والحقيقة أنني أتفق مع جون. فالأمر لم ينتهِ بعد، بل إنه لم يبدأ أصلاً.