هل من الممكن أن تتم أية عملية إصلاح أو دمقرطة حقيقية من دون أن تطال قطاع الأمن والمخابرات والشرطة في أي بلد ما؟ الجواب المباشر والذي لا يقبل أي تردد هو بالطبع: لا. جوهر عملية الإصلاح هو الشفافية والمحاسبة وامتثال السلطة التنفيذية, بكل أجهزتها الحكومية والأمنية والمخابراتية, لسلطة القانون. في النظام الديمقراطي يخضع الجيش, والأمن, والاستخبارات لسلطة المدنيين الذين يتربعون على قمة السلطة التشريعية, أي البرلمان, عبر الانتخاب الحر والنزيه. والقضاء الفعال والعادل هو الذي بدوره يراقب بقاء التراتبية الصحية للسلطات المختلفة وتوزيع الصلاحيات بينها بشكل يضمن عدم تغوُّل إحداها على الأخرى, وخاصة السلطة التنفيذية على التشريعية. في الجدل حول الدمقرطة والانفتاح السياسي العربي لا يحظى النقاش حول إصلاح الأجهزة الأمنية بالاهتمام المطلوب. فهذا الموضوع يعتبر من المُحرَّمات السياسية ويحذر كثيرون من الاقتراب منه. بل إن كثيراً من الكُتاب والمثقفين والسياسيين العرب المهمومين بمسألة الديمقراطية هم أصلاً من المكتوين بنار الأجهزة الأمنية والمخابرات، فلذلك يعانون من "عقدة كتابية" إزاء طرح موضوع الإصلاح الأمني أصلاً. بيد أن الواقع يقول إنه من دون توسيع النقاش حول الإصلاح والدمقرطة ليشملا في القلب منهما إصلاح القطاع الأمني والمخابراتي والعسكري فإن الجدل كله والأمل بحدوث دمقرطة متراكمة يظل منقوصاً، وربما بعيد المنال أيضاً. وما هو جدير بالإشارة إليه في مقدمات تناول موضوع "عنف الدولة" بشكل عام هو أن السجال الحزبي- الحكومي المتوتر يقضي أولاً على احتمالات قيام نقاش صحي وموضوعي، ويدفع إلى التخندُق المعتاد. كما أنه لا يعترف بالحقائق الموضوعية التي تفترض إقراراً هادئاً بالمعطيات, وهو إقرار لا يمكن أن يتحقق في جو التوتر والتخندق. فمسألة "الدولة والعنف" وأحقية الدولة بأن تكون اللاعب الوحيد في المجتمع الذي له مشروعية استخدام العنف وفق سلطة القانون هي واحدة من أبجديات تكوُّن الدولة الحديثة. ومعنى ذلك أنه لا الأحزاب ولا الطوائف ولا القبائل المنضوية في كنف تلك الدولة يحق لها امتلاك "أجهزة العنف" أو ممارسته بشكل ذاتي، لأن ذلك يندرج حصرياً ضمن مسؤوليات الدولة. وفي المقابل, فإن عنف الدولة محكوم بالقانون وبالعقد الاجتماعي المتوافق عليه والذي يحيل إلى الشعب في نهاية المطاف مراقبة كيفية ممارسة ذلك العنف عبر السلطة التشريعية. لكن هذا التوزيع النظري واجه تحديات كبرى عند التطبيق في العصر الحديث, وخاصة في الدول النامية والفقيرة والناشئة في حقبة ما بعد الاستقلال. فقد واجهت تلك الدول إرثاً هائلاً وتحديات كبيرة تمثلت في محاولة تخليق كيانات سياسية واجتماعية وثقافية ذات سيادة متميزة عن المستعمر أولاً, وعن الدول المجاورة لها (والطامعة بها أحياناً) ثانياً. ولضمان قيام تلك الكيانات اعتمد على العنف والقبضة الأمنية. وبسبب قلة الخبرة والفقر التقني والمالي للكيانات الناشئة فإنها لم تستطع أن تفرض خضوعاً كاملاً لمنطق الدولة إلا عبر ممارسة منطق "الأمن والعنف غير الليِّن", (أي المداهمات, السجن, التعذيب, نشر الخوف والرهبة من النظام). وهذا بخلاف ما تتبناه الدول المتقدمة والغنية عبر ممارسة "الأمن والعنف الليِّن", (المراقبة عن بعد, التنصُّت, الإحاطة بما يحدث من دون تدخل مباشر... الخ), أي من خلال نظام أمن واستخبارات عالي التقنيات ولا يطأ الحريات العامة للناس بشكل مباشر. في كل الأحوال من الصعب إجمال كل الجوانب الأساسية المتعلقة بدمقرطة القطاع الأمني في سطور قصيرة, لكن من المهم على أقل تقدير الإشارة إلى أهم تلك الجوانب. لكن المبتدأ الأساسي في هذا السياق هو كسر "تابو" تحريم الحديث حول هذا الموضوع باعتباره الخطوة الافتتاحية, وإطلاق النقاش حوله وفتحه للحوار العام بكونه أمراً لا مناص عنه. يلي ذلك القول إن القطاع الأمني يشكل في حالة الدولة العربية العصب الحساس والعمود الفقري, والنقاش حوله يجب أن يتم بمسؤولية عالية. فرغم أن دولة القمع البوليسي هي التي كانت, مع الأسف, "النموذج" الذي تسيد معظم الحالات العربية, فإن تراكم عقود من التجربة أنتج اختلالات بنيوية في طبيعة الدولة قائمة ومتأسسة على ذلك العمود الفقري. والخلاصة الحالية لكثير من تلك الحالات هي أن بناء الدولة منحرف باتجاه الأمن, ولا يتصف بالتوازن المطلوب, لكن الخلخلة غير المسؤولة للعمود الفقري لذلك البناء, على انحرافه, قد تؤدي إلى انهيار البناء بأكمله, عوض أن تؤدي إلى استقامته وتوازنه. ومن هنا ضرورة أن ينطلق النقاش من مسؤولية وطنية وليس من حزبية ناقمة أو طائفية ثأرية قد تؤدي إلى خراب وانهيار كامل بدل أن تحقق الإصلاح. والأمثلة العربية ماثلة أمامنا حيث يترحم الناس على "السيئ" الذي ثاروا ضده وأرادوا التخلص منه لأن ما حل بعده كان "الأسوأ". لهذا فإن ما يجب أن يقع في قلب الجدل حول إصلاح القطاعات الأمنية والاستخباراتية العربية هو آليات التدرج والنهايات المأمولة, وبحيث يتم الإصلاح من دون حدوث تصدُّعات كبرى في الدولة والمجتمع. فمن ناحية أولى تقف تلك التصدعات على بعد خطوة واحدة فقط من أي عملية تمس "الوضع القائم" للنظام الأمني, لأن هذا النظام وخلال عقود ما بعد الاستقلال تغوَّل وتغلغل في قلب عملية بناء الدولة والمجتمع. ولم يتوقف للحظة عن احتلال مساحات اجتماعية وسياسية واقتصادية في كل الاتجاهات. ولم تعد أجهزة الأمن والمخابرات وحتى الجيش مؤسسات تقنية واضحة المعالم وواضحة المسؤوليات وتقف عند حدود ما هو مرسوم لها أو متوقع منها. بل بالعكس, أصبحت تلك الأجهزة هي الدولة أو دولة داخل الدولة لها شبكاتها السياسية والاقتصادية والمالية والولائية وأحياناً علاقاتها الدبلوماسية الخارجية. وبسبب صلابة النواة الأمنية للنظام السياسي العربي, بالمجمل العام, فقد بقيت بعيدة عن تأثيرات الحديث عن الإصلاح السياسي, أو الانخراط في عمليات دمقرطة متدرجة. وفي عدد من الحالات العربية التي تقدمت خطوات على صعيد الانتخابات البرلمانية, أو الانفتاح السياسي, بقيت "النواة الأمنية" بعيدة عن تلك الخطوات, وبقيت السلطة التشريعية (البرلمان المنتخب) الجديدة بمنأى عن ممارسة أي نفوذ أو توجيه حقيقي على الأجهزة الأمنية بما يفرغ هذه السلطة من مضمونها. ثمة بعض المؤشرات الإيجابية, وإن كانت متواضعة, في بعض البلدان العربية مما يمكن أن يندرج في السياق الواسع لدمقرطة وإصلاح الأجهزة الأمنية. ففي بعض الدول, في المغرب مثلاً, أنشئت هيئات للمصالحة والتوافق الوطني مهمتها التحقيق في ممارسات أجهزة الأمن في الحقب السابقة, وتصويب الأجهزة الحالية للابتعاد عن الماضي وممارساته. وهناك في دول أخرى انفتاح محدود من قبل المخابرات والأمن على الرأي العام ومن ضمن ذلك إنشاء قنوات للتواصل عبر الخطوط الهاتفية "الساخنة" أو إنشاء مواقع إلكترونية لأجهزة المخابرات والأمن لخلق مناخ غير متوتر مع الجمهور، وسوى ذلك. لكن لا يمكن اعتبار تلك الخطوات سوى بدايات أولية, تستحق التشجيع بالطبع, لكنها بدايات العملية وليس آخرها. وربما ما يدفع بتلك العملية إيجابياً إلى الأمام هو فتح النقاش حولها، وإقحام الرأي العام فيها.