الإصلاح القضائي الكبير الذي أطلقه الملك عبدالله بن عبدالعزيز في ثلاث خطواتٍ مهمةٍ تمثًّلت في "نظام القضاء" و"نظام ديوان المظالم" و"مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير مرفق القضاء"- وقد رصدت للمشروع ميزانية بلغت سبعة مليارات ريال- هذا الإصلاح يعدّ لبنةً أساسيّة في سبيل الإصلاح الشامل، وما ذلك إلا للمكانة المهمّة التي يمثّلها القضاء، فالقضاء يمس المجتمع بكافة فئاته ويمس علاقة المجتمع بالفضاء الخارجي باستثماراته الاقتصادية ومواقفه السياسية وأبعاده الأخرى، كما أنّه يمس المواطن البسيط في أصغر جزئيات حياته، ولذلك فإن إصلاح القضاء يعتبر أولوية قصوى جاءت المبادرات الثلاث السالفة الذكر لتضع له برنامجاً عملياً. لقد خلق البشر مختلفين، ولذلك كان لابدّ لهم من "قضاء" يفصل في خصوماتهم عند الاختلاف، فكان البشر البدائيون يتحامون إلى أعرافٍ اجتماعية غير مكتوبة، وإن كان لها في لحظات تاريخية غابرة ما يقارب حكم القانون، وقد اختلفت بدايات كتابة القانون من حضارةٍ لأخرى ومن مجتمعٍ لغيره، غير أنّ البدايات الأولى كانت في بلاد الرافدين وفي الحضارة البابلية تحديداً وقد كان هذا قبل حمورابي وبعده. إذا كانت العدالة أساس الملك، فإن ذراع العدالة اليوم تتمثّل في "القضاء" والمؤسسات التي تمثّله في المجتمع، وهي المؤسسات التي استهدفت إصلاحها وتطويرها بشكلٍ مباشر المبادرات الثلاث السابقة، ذلك أن المجتمع لم يزل منذ سنواتٍ طويلة يتململ من تأخر وتخلّف النظام القضائي عن الإيفاء بحقوق الناس، وإن فعل فإنه يفعل ذلك ببطء شديد يحرم الناس من سرعة الاستمتاع بحقوقهم، وقد كان لهذا التأخر أسباب موضوعية جعلته مسيطراً على الأرض، وذلك كتأخر الهيكلة القضائية عن التطوّر الإنساني العالمي في هذا المجال، وكذلك نقص الكوادر المؤهلة، ونقص عدد القضاة، وعدم وجود تقنين للأحكام القضائية أو تدوين لها–بحسب اختلافات المختصين- كلّ هذه العوامل وغيرها كانت سبباً في تأخر القضاء. المؤمل من هذه المبادرات التاريخية الثلاث هو أن تعبّد الطريق لاحقاً لتطوير حقيقي يتجاوز أسباب التأخر وينشد التطوّر والتقدّم واللحاق بالركب الحضاري العالمي واستدراك الخلل، وكل الأمل ألا تضيع هذه المبادرات في معاملاتٍ بيروقراطية أو أولويات لا تخدم الهدف السامي لها. إن الإنسان هو العماد الأساس لأي حضارة، والهدف الأسمى لأي تطوير، منه ينطلق الفعل الحضاري وإليه ينتهي، وهذه المبادرات الثلاث ينبغي على المؤسسات التي ستتولاها أن يكون اهتمامها الأول منصبّاً على "الإنسان" بمعنى أن تعنى كأولوية بتأهيل الكوادر القادرة على مواكبة وتطبيق هذا التطوير الكبير. إن تأهيل الكوادر يبتدئ من تأهيل المؤسسات التعليمية الدينية، ومؤسسات التعليم العالي التي تعدّ القضاة، وتطوير مناهجها والفلسفة التي تقوم عليها من أساسها، حتى تستطيع إنتاج مخرجاتٍ لائقة بهذا التقدّم التشريعي والإصلاحي، فلم يعد من اللائق في ظلّ التطور العالمي الكبير في سنّ وتشريع القوانين وتطبيقاتها أن نظلّ نجترّ تنظيرات بشرية كتبت في عصور الانحطاط التراثية، وهي تنظيراتٌ بعيدةٌ عن روح النصّ ولغة العصر واحتياجاته، فلكل زمانٍ ضروراته ومعطياته التي لا يمكن تجاهلها أو إلغاؤها، كما لا يليق أن تنقل بحرفيّة وجمود تنظيراتٌ كتبت في غابر التاريخ لتكون حاكماً مهيمناً على التفكير والتطبيق في العصر الحديث. لا يقتصر الاهتمام بالإنسان في هذا المجال على إعداد أجيالٍ جديدة مؤهلة لتطبيق هذا التطوّر، بل ينبغي إطلاق حملة شاملة للتدريب والتأهيل يخضع لها القضاة الحاليّون، أو من يستطيع منهم على الأقل، وذلك لتأهيلهم حتى يكونوا بمستوى التطوير الحاصل على المستوى التشريعي والنظامي، على أن يتمّ بالتوازي مع هذا تطوير الكادر المساعد والمساند للقضاة حتى يتمكّنوا من أداء مهامهم الثقيلة بأيسر سبيل وأقل جهد. الواقع وضروراته واحدٌ من أهم العوامل المؤثرة في حراك المجتمعات، وهو كثيراً ما يهزم النظريّات العامة التي تتجاهله وتتعالى عليه، وما يشهد به هذا التطوير المهم،ّ هو أنه قد أحرق في مبخرة الإصلاح سنواتٍ من التنظيرات الدينية المتشددة لمفاهيم مشوّهة كـ"الحاكمية" أو لمفاهيم تمّ تشويهها عبر التفسيرات المتنطعة لها كـ"التحاكم إلى الطاغوت"، إنّ هذه المفاهيم قد تجاوزها الواقع بأشواطٍ طويلة، وإنها قد فقدت وزنها في الواقع الاجتماعي وعلى مستوى التفاعل اليومي، وإن كان هذا لا ينفي أيضا أنّ آثارها ما تزال باقيةً على المستوى العقدي والسياسي، وهو ما يؤكد على الحاجة الدائمة إلى معالجتها معالجة فكرية طويلة. مبدأ استقلال القضاء مبدأ رئيسٌ في أيّ إصلاح حقيقي وصادق، ولذلك كانت البداية به منطقية ومؤشراً على الرغبة الكاملة في التطوير، وذلك عبر التأكيد على أنّ "القضاة مستقلّون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحدٍ التدخّل في القضاء". تطوير درجات التقاضي والمحاكم المتخصصة ونشر الأحكام القضائية كلّها مفرداتٌ تطويريةٌ كبيرة تدفع بمرفق القضاء إلى آفاقٍ أرحب وفضاءاتٍ أوسع كما تحرك عجلته بشكلٍ أسرع بما يسهّل على المجتمع مؤسسات وأفراداً وعلى الشركات الداخلية والمستثمرين الأجانب معرفة ما لهم وما عليهم في أي معاملة يبرمون أو عقدٍ يمضون. ليس هذا فحسب ما تقدمه هذه المبادرات، بل إنها بالإضافة لهذا تفتح الباب واسعاً أمام دخول كثير من الخبرات المعطّلة في المجتمع في مجالاتٍ القانون والأنظمة لتمارس دورها بفعالية وإبداع داخل مؤسسات القضاء الرسميّة، كما يسمح التنظيم الجديد بتراكم الخبرات واستقرار الأحكام القضائية بعيداً عن الاجتهادات الشخصية للقضاة التي تؤثر سلباً على الاستقرار القضائي. إن انتشار ثقافة القانون والنظام تمنح المجتمع استقراراً وعدالةً يمثلان الدعامة الأساس لأي خطةٍ عملية للإصلاح والتقدّم والنهوض. كما بدأنا بالإنسان نختم به، وذلك بالإشارة إلى إن هذا التطوير الكبير يحتاج إلى رجالٍ يتمتّعون بالنزاهة والكفاءة العالية لتطبيقه على أرض الواقع، وهنا تأتي أهميّة اختيار الأشخاص الذين ستلقى على عاتقهم مهمّة بهذا الحجم ليكونوا دعامة تُعجّل بتحويل هذا التطوير إلى واقعٍ عمليٍ يلمسه أفراد المتقاضين بدلاً من أن يشكّلوا عائقاً يؤخر التطبيق أو يعرقل مسيرته. وأخيراً فمن هيئة البيعة في رمضان الماضي إلى نظامي القضاء وديوان المظالم مع الميزانية الخاصة بهما، يظلّ الملك عبدالله بن عبدالعزيز رجل الإصلاح الأول في السعودية، ولا يستطيع أياً كان أن يزايد عليه في هذا المجال، فمن يقول ويفعل إصلاحاً وتنميةً ليس كمن يقول ولا يفعل أو من يقول ويخرّب، إنها حكاية رحلة تاريخية في الإصلاح السياسي والإصلاح القضائي تترافق معها إصلاحاتٌ أخرى في مجالاتٍ شتى ويطمع المجتمع دائماً في المزيد من الإصلاح والتطوير، فالرسالة التي يقولها الملك بكل وضوح هي: في زمن السرعة والتطوّر لا مكان للقاعدين فضلاً عن المتقهقرين!