أنهكت سلسلة من الحروب القارة الأوروبية والعالم كله خلال القرن العشرين، فقد مهدت الحرب العالمية الأولى، للحرب العالمية الثانية، وأحرقت هذه بدورها الأخضر واليابس، والدُور والديار على امتداد كل القارات تقريباً، من الولايات المتحدة إلى أوروبا وروسيا واليابان وشمال أفريقيا، وحطمت اقتصاديات العديد من دول أوروبا وبناها التحتية. وما أن صحا العالم، وبخاصة أهل أوروبا، من هول الصدمة، وسط الدمار الشامل والشوارع المدفونة بالأنقاض، حتى وجدوا أنفسهم في حرب ثالثة، بدأت غيومها تتجمع وبرقها يجلجل من دون مطر. ولهذا سميت اصطلاحاً بـ"الحرب الباردة"! ولو كانت حرباً ساخنة، فلربما عادت البشرية- إن سلمت- إلى العصر الحجري! تجول الكاتب الصحافي "فرج جبران" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في "أوروبا الحائرة"، كما أسمى كتابه المطبوع عام 1948، وزار العديد من دولها في تلك الفترة العصيبة الحاسمة، عندما بدأ تشكل المعسكرين، ودخلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في صراع سباق التسلح. في الطريق إلى تشيكوسلوفاكيا، وقفت به الطائرة في أثينا، فكتب يقول:"إن اليونان التي أعتُبرت إحدى أوائل الدول التي انتصرت في الحرب، إنما تعاني اليوم من آلام هذا الانتصار لوناً عجيباً من شقاء الحياة لا تعانيه أية دولة أخرى، لقد تدهورت نقودها، وجاع أهلها، وتمزق شملها، ولم يعد يعرف- إلا الله- مستقبلها"! مطار روما امتلأ باليافطات الإنجليزية! تساءل "جبران": يدهشني أن أرى هذه اللافتات الكثيرة مكتوبة بالإنجليزية، حتى اسم المدينة روما؟! فنظر إليه الضابط السابق بالجيش الإيطالي قائلاً بعد تردد:"إن علينا أن نتحمل ذل الهزيمة كما تمتعنا بثمار النصر"! في شرفة فندق "الأمبسادور" ببراغ، كان بعض المارة يمدون أيديهم إلى منافض السجائر، "يجمعون منها أعقاب السجائر الأميركية والمصرية التي كنا ندخنها، والتي حملناها معنا من مصر". وعندما أعرب عن دهشته لصديق فلسطيني قابله هناك كان قد قدم من ألمانيا، قال له:"إذاً ماذا تقول لو رأيت ما يحدث في ألمانيا! هناك يقف جمع كبير من "المحترمين" أمام جندي أو ضابط أميركي يدخن سيجارة وكلهم ينتظر حتى ينتهي من تدخينها، فإذا انتهى وألقى بها على الأرض انقضوا جميعاً على العقب وكل يحاول أن يفوز به، وكثيراً ما تحدث بسبب هذا معارك ومشاجرات". عندما زار الكاتب جبران تشيكوسلوفاكيا لم تكن روسيا قد ضمتها بعد إلى الكتلة الاشتراكية، ولهذا كتب أن سكان البلاد "لا يشعرون بالأمان إلا وهم في أحضان روسيا، الأم الرؤوم في نظرهم"! وكان التشيك قد طردوا كل "الألمان السوديت" من بلادهم انتقاماً من الاحتلال الألماني بل طردوا كل تشيكوسلوفاكي ينتسب إلى أصل ألماني، وهكذا حدث فراغ سكاني، كما بدأ التشيك بالندم على طرد هؤلاء الصناع المهرة من البلاد. في هولندا اكتشف الكاتب أن الماء هناك يقابل الرمال في الصحراء، "فطواحين الهواء المنتشرة في هولندا كلها لم تعد تؤدي وظيفتها السابقة وهي طحن الحبوب ولكنها اليوم تؤدي وظيفة أخرى هي امتصاص الماء من المناطق الواطئة". وفي بعض المناطق ألقى الألمان قنابلهم على الجسور وحواجز المياه، وكانت النتيجة أن أغارت مياه البحر من جديد على مناطق كانت آهلة بالسكان فأغرقتها واكتسحت منازلها! لم تكن هولندا رغم هذا، سعيدة بالدمار والشلل الذي أصيبت به ألمانيا خلال تلك الحرب، فالكثير من مصالحها التجارية كانت مرتبطة بألمانيا. وكان الزائر لمدينة "روتردام" الهولندية قبل الحرب، يكاد يعتقد تماماً أنه في ميناء ألماني، حيث كانت اللغة الألمانية تستخدم فيها أكثر من اللغة الهولندية، كما كان أكثر من 60% من سياح هولندا.. من الألمان! صحيح أن الأميركان كانوا بعد الحرب ينقلون الكثير من البضائع عبر الأنهر الألمانية، ولكنهم كانوا يتجنبون هولندا... لتوفير الرسوم والضرائب! كان الحلفاء قد اختاروا مساعدة ألمانيا على النهوض من كبوتها، وكانت هولندا حائرة بين المعسكرين، فمشاكلها كثيرة وبخاصة بسبب العدد الكبير من الهولنديين الذين عادوا من إندونيسيا بعد أن احتلها اليابانيون أثناء الحرب، ومعظم هؤلاء الهولنديين فضلوا الإقامة في بلادهم بدلاً من العودة إلى إندونيسيا. إن مدينة ميونخ كانت على الدوام درة المدن الألمانية، "ولكنها تعيش الآن في ظلام الألم والحرمان، وإلى جوارها في السهول وعلى قمم جبالها مئات المدن الأخرى التي اشتهرت مثلها بالفنون والصناعات يخيم عليها البؤس، وتسرح في دروبها الفتيات الجميلات يبحثن في القمامة وبقايا الأطعمة عن فُتات يحفظن به حياتهن. كل شيء في ألمانيا دمار وخراب، وكل أمل أسود قاتم، وكل وجه حزين ضامر، لا موسيقى ولا رقص، لا خمر ولا غناء، وإنما دموع وبؤس وشقاء"! وقابل الكاتب ضابطاً أميركياً، فتحادثا لبعض الوقت.وسألناه: ما هو في رأيك الزمن الكافي لإعادة بناء ألمانيا أو على الأقل مدينة كهذه؟ فأجاب: "مئة سنة على الأقل"! وسألوا الضابط عن مصير هتلر، وهل صحيح أنه لا يزال حياً، فأجاب" "نعم! أنا أعتقد أنه لا يزال حياً، وقد اختفى في مكان ما لا يستبعد أن يكون ألمانيا نفسها، وهو لا يفكر اليوم إلا في الانتقام، ولكن هيهات أن تسنح له الفرصة للانتقام، فإن بلاده لا يمكن أن ترفع رأسها قبل مائة سنة"! ويتنبأ الكاتب صادقاً بعودة ألمانيا قريباً إلى الساحة الدولية! فيقول: "بدأ الغربيون يفكرون جدياً في أهمية إعادة بناء ألمانيا وضرورة قيامها في أوروبا الوسطى للوقوف في وجه روسيا حفظاً للتوازن الدولي في القارة، ولذلك لن يكون غريباً، إذا استعادت ألمانيا مكانتها السابقة في وقت يقل كثيراً عما قدره لها أعداؤها من قبل". وهذا ما حدث فعلاً بعد نحو عشرة أعوام! فرنسا كذلك، كتب فرج جبران، حائرة اليوم بين تيارين:"إنها تريد أن تكون لها المكانة التي تتمتع بها الدول الكبرى في أوروبا مثل روسيا وانجلترا، بل إنها تطمع في مركز كمركز أميركا نفسها في داخل أوروبا، ولكن الدول الكبرى لم تعد تعاملها على هذا الاعتبار، إن سياسة فرنسا اليوم يتحكم فيها الكبرياء السابق، ولكن الانقسامات الداخلية والاضطرابات وتنازع الأحزاب وأطماع الساسة، كل ذلك يهددها بفوضى لا يعلم مداها أحد". ويشتكي الكاتب من غلاء تكاليف المعيشة في باريس وألاعيب سائقي التاكسي، وبخاصة لمن لا يعرف كيف يبحث عن المطاعم الأخرى أو الفنادق أو يتصرف مع سيارات الأجرة. فـ"السائق الذي يسمح لك بالركوب يحدثك طول الطريق عن مقدار التضحية التي بذلها إذا أركبك، وهو يلمح لك -أو يصرح لك إذا شئت- بأن هذه التضحية يجب أن تُكافأ أو تُقدر... ولذلك قلما يُدفع أجر السيارة دون أن يضاعف"! في فرنسا وإيطاليا حزبان شيوعيان قويان، والشيوعيون في إيطاليا لا يقل عددهم، يقول الكاتب، عن 11 مليوناً. و"هم يعملون بكل قواهم على أن تنتقل السلطة إلى أيدي الكتلة الشعبية وذلك للحيلولة دون انتقالها إلى أيدي الاحتكاريين والرأسماليين وغيرهم من النفعيين الذين تسببوا في حربين عالميتين كبيرتين، والتنافس بين أميركا وروسيا على أشده في إيطاليا". روسيا تحاول إغراء إيطاليا والولايات المتحدة تهدد إيطاليا بالحرمان من المساعدات الأميركية المقررة لها بموجب مشروع مارشال... إن استولى الشيوعيون على الحكم. الأسلحة منتشرة في كل المدن الإيطالية، ويقال إن يوغسلافيا تهرب الأسلحة إلى الشيوعيين في إيطاليا ليكونوا على استعداد. في اليونان حرب بين الحكومة والثوار اليساريين، "ولا يعرف أحد حتى اليوم كيف تنتهي الحرب. وفي فرنسا كان الشيوعيون قد فازوا في الانتخابات على الأحزاب الأخرى، ولكن هذه الأحزاب ما لبثت أن جمعت فلولها وشنت عليهم حرباً شعواء، ولا يفتأ الجنرال ديجول يندد بهم في كل مناسبة وينبه إلى خطرهم.. وأعلن المستر أتلي في مجلس العموم البريطاني قرار إبعاد الشيوعيين عن وظائف الدولة المهمة". في مثل هذه الظروف بدأ الانقسام إلى معسكرين وما أعقبه من صراع وتهديد وتلويح بالسلاح النووي الذي ظل يتراكم في مخازن موسكو وواشنطن، بانتظار حرب لحسن الحظ لم تقع، ومعركة كم نحن سعداء إذ لم نشهد كوارثها!