في عام 2000 كتب أحد المراقبين الغربيين متسائلاً عما إذا كان هناك أمل في أن تتحول بورما يوماً ما إلى الديمقراطية كغيرها من دول الجوار الآسيوية. وفي رده على هذا التساؤل قال إن الأمر لا يعتمد على جهود الحركة الشعبية المطالبة بالتغيير بقيادة السيدة "أونج سان سو كي"، ولا على الضغوط الدبلوماسية من الدول والمنظمات الأجنبية، ولا على العقوبات الاقتصادية الدولية، وإنما على انتفاضة رهبان البلاد البوذيين. فلهؤلاء اتحاد يضم أكثر من 300 ألف راهب، وهم منظمون تنظيماً جيداً، فضلاً عن أن البوذية في بورما ليست مجرد عقيدة تدين بها الأغلبية الساحقة من سكان البلاد البالغ تعدادهم نحو 56 مليون نسمة، وإنما تمثل هوية البلاد وعنوانها وتاريخها. ومؤخراً كتب مراقب غربي آخر، تعليقاً على أحداث بورما الأخيرة التي خرج فيها أكثر من 10 آلاف راهب بوذي على رأس تظاهرات ضخمة ضد النظام العسكري القمعي الحاكم في يانجون، بأنه يجب عدم الاستخفاف بهؤلاء الذين لا تشير ملابسهم الزعفرانية البسيطة ورؤوسهم الحليقة ومواعينهم الخالية وحركتهم الصامتة والخجولة واعتمادهم في الطعام على صدقات المحسنين، إلى أي نفوذ أو تأثير. وكلام المراقب صحيح ويؤكده تاريخ بورما، بل تاريخ منطقة جنوب شرق آسيا كلها. فرهبان البوذية لئن اعتادوا الصمت والهدوء والابتعاد عن مباهج الدنيا وشؤونها، والانصراف إلى العبادة والدراسة وإشاعة مبادئ المحبة والسلام، فإنهم قد ينقلبون في لحظة ما إلى بركان يزلزل الأنظمة إذا ما تمادت الأخيرة في القمع والبطش والطغيان. لكن ما يميزهم في حركتهم هذه أمران: الأول هو المنحى السلمي بمعنى الابتعاد عن الأساليب العنيفة والطائشة والاكتفاء بالعصيان والاحتجاج الصامت على الطريقة الغاندية، وفي أسوأ الأحوال الاحتجاج عبر إيذاء النفس. والثاني هو السعي إلى تغيير الأنظمة ليس من أجل الحلول مكانها وإقامة أنظمة دينية يكون لهم فيها الكلمة العليا، وإنما من أجل قيام أنظمة ديمقراطية علمانية تضمن العدالة والمساواة لسائر الطوائف والملل. وقد رأينا هذا في التبت التي قاد فيها رهبان البوذية بقيادة الدلاي لاما الثورة ضد النظام الشيوعي الصيني في الخمسينيات، احتجاجاً على سياسات بكين الرامية إلى تقييد حرية الأديان ومحو ثقافة وخصوصية شعب التبت. ورغم نجاح السلطات الشيوعية في قمع الانتفاضة بالحديد والنار، وخروج الدلاي لاما إلى المنفى في الهند مع الآلاف من أتباعه، إلا أنها لا تزال تعمل لهم ألف حساب. وما توترها وانزعاجها من ظهور حركة "فالون جونج" ذات الجذور البوذية في السنوات الأخيرة، وتنامي شعبيتها في أوساط الصينيين من اثنية "الهان" إلا إحدى صور ذلك الخوف. ورأيناه لاحقاً في ما كان يعرف بفيتنام الجنوبية أثناء سنوات الحرب في منتصف الستينيات، حينما كان منظر الرهبان البوذيين وهم يحرقون أنفسهم في شوارع سايجون احتجاجاً على الحرب وديكتاتورية نظام الرئيس "دييم" وخلفه الرئيس "نجوين فان ثيو"، منظراً شائعاً يتكرر كل يوم، ووسيلة من وسائل الضغط وتحريك قوى السلام في العالم الغربي للتظاهر من أجل وقف الحرب. وقتذاك كتب الزعيم الأميركي الأسود مارتن لوثر كينج "إن هؤلاء الذين يحرقون أنفسهم على قارعة الطريق لا يفعلون ذلك احتجاجاً على أشخاص أو رموز، وإنما احتجاجاً على سياسات اللاتسامح والتطرف والديكتاتورية والتمييز والكراهية". وفي كمبوديا لم يترك نظام الخمير الحمر راهباً بوذياً إلا وقتله أو سجنه، خوفاً من نفوذهم وتأثيرهم الخفي، حتى قيل إن عدد من قضى منهم نحبه وصل إلى 60 ألف راهب. وفي المرحلة الانتقالية التالية لسقوط "الخمير" واندحارهم لعب من تبقى من رهبان البلاد بقيادة الكاهن "ماها جوساناندا" دوراً محورياً في المصالحة الوطنية وتضميد جراح الوطن. أما في بورما التي يقول تاريخها القديم إن ملوكها كانوا يستمدون شرعيتهم من اعتراف الرهبان البوذيين، وأن هؤلاء كثيراً ما اسقطوا ملوك البلاد بمجرد سحب اعترافهم بهم، فإن الأنظمة العسكرية الديكتاتورية منذ نظام الجنرال "ني وين" وصولاً إلى النظام القمعي الحالي بقيادة ما يسمى بمجلس الدولة للسلام والتنمية، أدركت مدى قوة الدور الذي يمكن أن يلعبه الرهبان من خلف الكواليس، فحرصت على انتهاج سياسة من شقين: الأول فرض الرقابة والسيطرة الصارمة على مؤسساتهم ومعابدهم، والثاني التقرب منهم عبر إغداق الصدقات السخية عليهم مع نشر ذلك في الصحف المحلية الخاضعة لسيطرة الدولة. غير أن الشق الثاني من تلك السياسة بدا عاجزاً عن تحقيق الهدف المرجو، ولا سيما بعد استغراق النظام في القمع والتنكيل وإفقار الشعب وفرض العزلة القاتمة عليه. حيث لوحظ في السنوات الأخيرة بروز ظاهرة غير مسبوقة واتساعها في صفوف الرهبان بسرعة مثيرة. فهؤلاء الذين اعتادوا أن يتجولوا من أجل جمع الصدقات في أوعية معدنية يحملونها، وعرف عنهم الصمت التام وطأطأة الرأس نحو الأرض أثناء تلقيهم تلك الصدقات، صاروا يقلبون أوعيتهم رأساً على عقب إذا كان المحسن من رموز السلطة الحاكمة أو أقاربه، كناية عن الاحتجاج والرفض والاستهجان لسياسة النظام. ويصف بعضهم تحرك الرهبان البوذيين الأخير ضد نظام يانجون، بأنه مجرد ردة فعل لتردي الأحوال المعيشية للسواد الأعظم من البورميين، والذي أثر بدوره على قدراتهم في تقديم الصدقات لأرباب وتلاميذ البوذية. غير أن هذا التفسير سطحي ولا يستقيم مع ما عرف عنهم من أدوار محورية في الشأن العام في التاريخ المعاصر على الأقل. إذ لعبوا دورا مهماً في فترة ما قبل الاستقلال عن التاج البريطاني في عام 1948، حينما عرفوا بأصحاب "قضية الحذاء" في إشارة إلى انتفاضتهم ضد رجال الإدارة البريطانية على خلفية استخفاف هؤلاء بالتقاليد المحلية وإصرارهم على دخول المعابد البوذية من دون خلع أحذيتهم. ويذكر تاريخ هذه الفترة كيف أن الراهب البوذي "ويسارا" صار شهيداً وطنياً بعد موته في السجن في عام 1929 بعد 166 يوماً من الإضراب عن الطعام احتجاجاً على سياسات المستعمر. أما في العصر الحديث، فإنهم ساهموا مساهمة فعالة في الانتفاضة الأولى ضد العسكر في عام 1988 ، والتي راح ضحيتها أكثر من 3000 ناشط ومتظاهر، لتتحول المعابد البوذية منذ ذلك الحين إلى ملجأ للشباب ومكان للأنشطة السرية ضد النظام. لم يكن بوذا قط مُنظراً أو ناشطاً سياسياً، وإنما مجرد مصلح منشغل بالإجابة على الأسئلة والمعايير الأخلاقية التي تجعل من الإنسان، سواء أكان حاكماً أو محكوماً، عادلاً وصالحاً ونزيهاً. لكنه توقع أن المجتمعات الريفية الصغيرة التي مارس دعوته فيها لن تبقى على حالها، وستشهد نمواً وتوسعاً تتعقد معه الحياة وتظهر فيها الصراعات المفضية إلى تراجع الأمان والسلام، فأوصى أتباعه بأن يكونوا على استعداد للتناغم مع متطلبات عصورهم. ولعل هذا هو أحد مفاتيح تفسير انخراط الرهبان البوذيين في الشأن العام حينما تتحول مجتمعاتهم إلى مجتمعات أسيرة للقمع والطغيان. وطبقاً للباحث الاجتماعي التايلاندي المعروف "سولاك سياراكسا"، فإن البوذية لئن حرصت على عدم التنازل أو المساومة على مبادئها الأساسية، فإنها مرنة ومستعدة لتعيد تأسيس نفسها بشكل يجعلها ذات دور إيجابي في حياة مجتمعاتها المعاصرة، وصاحبة قدرة على الإجابة على كل الأسئلة المستجدة، من دون ادعاء معرفة الحقيقة المطلقة أو ادعاء الأفضلية على غيرها.