في خطوة غير قابلة للنقاش بدأت "الطبيعة"، ومن دون أي تردّد إحدى معاركها الضارية على بني آدم الذين دأبوا ومنذ قرون على تغيير معالمها وتحطيم مناخها، وباتت جميع الألوية والأسلحة التابعة لها على جهوزية تامة لاستهداف أكثر المناطق هشاشة في العالم، الواقعة في شبه القارة الهندية وبنجلاديش بالتحديد، التي تعتبر اليوم في خطوط المواجهة الأولى مع تداعيات تغير المناخ عالمياً. ورغم أن سكان هذه المنطقة وغالبهم لا يمتلكون أجهزة تلفزيون، لم يسمعوا في حياتهم قط عن أزمة الاحتباس الحراري ومخاطرها الجسام، فإن ارتفاعاً بسيطاً في منسوب مياه البحر كفيل بأن يهدّد حياتهم ويُغرق ممتلكاتهم وأراضيهم، وبالتالي يجعلهم من أوائل ضحايا الحرب التي أعلنتها الطبيعة ووضعت خطة محكمة وصبورة تمتد لسنوات لتنفيذها. مواطنون كثر في جنوب بنجلاديش لم يسمعوا في حياتهم قط عن أزمة تغيّر المناخ، وما يمكن أن تجرّه من ويلات وكوارث على سكان الأرض. ومع ذلك، فإنّ هؤلاء يقبعون في الدائرة الحمراء التي تتصدّر لائحة المناطق الأكثر استهدافاً من قِبَل ثوران الطبيعة، فارتفاع بسيط في منسوب مياه البحر كفيل بأن يمحو وجودهم من المنطقة، بإغراق منازلهم وأراضيهم الزراعية وقراهم بشكل لا يبقي لهم أثراً. بالنسبة لمعظم البنغاليين في جنوب البلاد الذين لا يملكون تلفازاً أو كهرباء ولا يجيدون حتى القراءة، فإنّ تغيّر المناخ غير وارد في حساباتهم، ولكنهم يتعاطون مع هذا الموضوع بطريقة فطرية، إذ أنهم يشعرون بأنّ هناك خللاً ما في الطقس، وهم يحاولون التعاطي مع الأمر بكل الطرق البدائية التي توارثوها من جيل إلى جيل. تعتبر منطقة جنوبي بنجلاديش واحدة من أكثر مناطق العالم خطراً وهشاشة على الكرة الأرضية لناحية تأثرها بتغيّر المناخ. ويقول الخبراء إنه حتى لو توقف الإنسان عن إنتاج ثاني أوكسيد الكربون بدءاً من اليوم، فإنّ أجزاء جغرافية كبيرة من جنوبي البلاد ستصبح تحت الماء قريباً، خصوصاً وأن نحو 10 ملايين بنغالي يعيشون في مناطق لا تعلو عن سطح البحر بأكثر من متر واحد. أضف إلى ذلك، وجود أنهار وروافد عدّة في البلاد تسهم بشكل كبير في رفع معدل مياه البحر الذي يحمل في طياته مخاطر جمّة. السكان يستشعرون مخاطر محدقة بهم، إذ يلاحظون أن الطقس يصبح أكثر حرارة يوماً بعد يوم، فالعواصف تزداد، والرياح الموسمية لا تأتي في توقيتها المعتاد، حتى أن بعض الصحف المحلية باتت تتحدث عن توارد معلومات حول الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ ولكنها تضعهما في خانة "الشائعات" ليس إلا! وبالعودة إلى السنوات السابقة في جنوبي بنجلاديش، فقد اعتاد السكان فيضان البحر مع مجيء الرياح الموسمية في كل عام، وهم لهذه الغاية كانوا يبنون غرفاً وحظائر متينة مدعمة بالبامبو ومرتفعة عن الأرض ليؤمنوا مسكنهم وماشيتهم في تلك الأوقات الصعبة، وكانوا ينتظرون انحسار الفيضان عن أراضيهم ليعودوا فيملأوا الأراضي الموحلة بالبذور التي غالباً ما كانت تدرّ عليهم محاصيل زراعية كبرى. أما اليوم فلم تعد الطبيعة على حالها، إذ طرأت عليها تغيّرات والأشياء صارت تأتي في غير موعدها المحدد بدءاً بالرياح والأمطار وصولاً إلى العواصف والفيضانات. الروزنامة الطبيعية التقليدية تغيّرت، ومياه البحر، بحسب أحد السكان، "أصبحت طمّاعة جداً، فهي تقضم كل عام جزءاً من حقولي التي تحوّلت من 3 إلى 2 فقط، وأنا أجهل تماماً ما قد يحصل في العام المقبل". وهو يضيف:"لطالما كانت المياه مصدر عيشنا وعدوّنا اللدود في آن واحد، ولكن المياه اليوم بدأت تجرّدنا من كل شيء". تصنّف بنجلاديش واحدة من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، فهناك نحو 140 مليون شخص يعيشون في مساحة تقل عن نصف حجم ألمانيا، علماً بأن معظم البلاد تعيش على دلتا خصبة حيث تلتقي 3 أنهار هي: الغانج، البراهمابوترا وميغنا، حيث تصبّ جميعها في البحر. وبالتالي، فإنّ أي ارتفاع في معدل مياه البحر يؤدي إلى أخطاء مميتة بالنسبة لأعداد كبيرة من السكان، وحسبما تشير توقعات الخبراء، فإن مياه البحر، وفي حال ارتفعت سنتيمترات قليلة، فستغرق أراضي عديدة بمن فيها من السكان. إلى ذلك، فإنّ معدل تساقط الأمطار في المنطقة سينخفض جداً، وحسب التوقعات، فإن إنتاج الأرز في بنجلاديش ككل سيتدهور بنسبة 10 في المئة بحلول العام 2050 كما سيتراجع إنتاج القمح إلى الثلث ما سيهدد بمجاعة محتملة وإن كان الوقت لا يزال بعيداً وسانحاً لاتخاذ إجراءات وقائية. أما الخطر الأكبر، فيتمثل بالتوقعات التي تشير إلى أن جبال الهملايا ستذوب بكاملها بحلول العام 2035، وبالتالي فإنّ ذلك سيؤثر على معدّل مياه الشفّة كما على منسوب الأنهار الذي سيتضخم جداً. هذا من دون أن نغفل ما قد يحمله كل ذلك من أوبئة خطيرة وأبرزها الكوليرا، التي لطالما عانى منها سكان شبه القارة الهندية. وأمام ذلك، يبقى على البنغاليين ولاسيما الجنوبيون منهم، أن ينتظروا في السنوات المقبلة ما هو أسوأ وربما عليهم البحث عن وسائل غير تقليدية للتصدّي للحرب التي بدأت الطبيعة إحدى أكبر معاركها من أراضيهم تحديداً. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "أورينت برس"