بعد أيام معدودات تنتهي حملة القصف الشديد للمسلسلات التي تشنها الفضائيات خلال شهر رمضان على المشاهدين، ونبدأ في إحصاء الخسائر، وبالطبع سيكون الأطباء النفسيون المستفيد الأكبر من علاج معظم هذه الخسائر، ولكن ربما يخشى بعض المشاهدين من الفضائح في الكشف عما أصابهم من أمراض نفسية فيعتمدون على المهدئات ويأملون في أن يكون الزمن كفيلاً بالعلاج. بالطبع امتلأت جيوب المنتجين والمؤلفين والممثلين والقائمين على القنوات الفضائية، بينما فرغت عقول المشاهدين وتضاربت أفكارهم وتشوشت رؤاهم، وفقدوا أموالهم في الرسائل النصية القصيرة للمشاركة في برامج مسابقات رمضان الفضائية من جانب، وملء المعدة من جانب آخر. وحتى لا تصيبنا الحسرة على ما فات، ونندم على ما أهدرناه من وقت ونحن نحيا تحت القصف المستمر من الحلقات والموضوعات، التي ضررها أكثر من فائدتها، سنحاول أن نعقد مقارنة بين السمات والخصائص المشتركة التي تجمع بين كل من المسلسلات الرمضانية والأزمات العربية الساخنة، ومن المدهش والغريب في آن واحد أننا سنجد نحو عشرة جوانب مشتركة تجمع بين الاثنين. * أنهما كالمصائب لا تأتي فرادى، فالفضائيات العربية حشدت جل جهدها طوال عام كامل لتصب على رأس المشاهد كماً من المسلسلات يصعب متابعته؛ وتصيبه بالإحباط والكآبة وتطيح بأي أمل له في غد أفضل، وكذلك حال الأحداث الجارية في العراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال والجزائر، فهي متأزمة وتصعب ملاحقتها، وتحاصر المواطن العربي نفسياً وفكرياً وتدفعه إلى فقدان الأمل في أي حل قريب. * أنهما من صنع أيدينا، وإذا كنا نعترف بوجود دور خارجي في الأحداث، فإنه يتوارى خلف ما نقوم به ونفعله بأنفسنا، فإنتاج الفضائيات العربية من المسلسلات من القصة حتى الوصول إلى الشاشة الصغيرة قامت به أيدٍ عربية، وإن كانت المعدات والأدوات التي اعتمدوا عليها في التنفيذ واردة من الخارج، وكذلك حال الأزمات العربية فمعظمها "صناعة عربية"، فمن الذي تمسك بالطائفية على حساب المواطنة في العراق؟ ومن الذي سعى إلى إهدار الديمقراطية والاتفاقيات الوطنية وفضل مصالحه الذاتية ومكاسبه الخاصة على حساب الوطن في لبنان؟ ومن الذي حمل السلاح واستباح دماء أخيه وعرضه وممتلكاته في السودان والجزائر والصومال؟ وبالطبع نحن لا ننكر الدور الخارجي في إذكاء هذه الصراعات، ولكن السؤال المطروح أيضاً: من الذي دفع بمواطني هذه الدول إلى تبني مصالح خارجية وأصبح وكيلاً في الدفاع عنها على حساب الوطن والمواطنة؟ * أنهما يشغلان الشعوب العربية عن المشاركة في صنع الحاضر وبناء المستقبل، فالجلوس لساعات وأيام متتابعة أمام شاشات التليفزيون في بلاهة تامة مسلمين أفئدتنا وفكرنا لموضوعات تم قتلها عرضاً؛ ومستسلمين لقصص واهية ومملة ليس بها شيء جديد، غير ضياع الوقت والجهد. وكذلك حال المواطن العربي في الدول العربية المنكوبة، فهو مهموم بما يحدث لها وفيها، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً سوى الاستسلام للأمر الواقع، ذلك فإن النتيجة الحتمية أن نظل نراوح مكاننا، وأسرى زماننا، مشغولين بالنكبات ومنشغلين بالفضائيات عن القيام بواجباتنا ومسؤولياتنا تجاه بناء الحاضر، وصناعة المستقبل وفق ما نطمح إلى تحقيقه من أهداف وغايات. * أنهما تمثيليات تدار لصالح أطراف أخرى هي المستفيد الحقيقي، فالمسلسلات عبارة عن عروض تمثيلية تتجاوز حدود الواقع تحت زعم الإبداع والفنتازيا والتعبير عن خيال المؤلف، وأنه ليس بالضرورة أن يتطابق العمل التليفزيوني مع الأحداث الاجتماعية في الحياة، وكذلك حال المصائب العربية، فوقائعها وتطوراتها وسلوكيات أطرافها تخالف حقائق العمل الوطني ومتطلبات الأمن والاستقرار، ولا تتفق مع سمات وقيم وتقاليد المجتمعات العربية، إذن فهي ترجمة لطموحات ومصالح أطراف على حساب الأطراف الأخرى الأصلية صاحبة المصلحة الحقيقية، مما يعني أنها تمثيلية يخرجها ويلعب الأدوار فيها من يمثلون أنفسهم فقط. * إن في الاثنين تكراراً للوجوه نفسها والشخصيات ذاتها، بمعنى أنك تجد الممثل يلعب أدواراً مختلفة في مسلسلات عدة، بل أحياناً يتم احتكاره في إطار شخصية بعينها مثل أن يكون شريراً أو رومانسياً أو ديكتاتورياً أو فاسداً، والأمر نفسه نجده في الأزمات العربية، فالدور الذي تلعبه إيران يتكرر في سوريا ولبنان وفلسطين، وإسرائيل لها أيدٍ في إشعال الحرائق في العراق وفلسطين ولبنان، وابن لادن ومن ورائه التنظيمات الإرهابية التي تعيث في الأرض فساداً وتهدد سلام واستقرار الشعوب، والإمبراطورية الأميركية تعبث بأمن المنطقة كلها، تحركها مصالحها الخاصة، ناهيك عن الأدوار التي تلعبها بعض الشخصيات العربية، مما يصيب الشعوب العربية بالملل والرتابة من كثرة تكرار هذه الشخصيات وتلك الأدوار. * أنهما لا تعبران عن إرادة الشعوب العربية التي باتت مغلوبة على أمرها، فهي تجري على شكل إملاء ومقرر من الفضائيات يجب أن يتجرعه المشاهد دون أية جريرة فعلها سوى الصمت والمتابعة، مثلما تُجْبَرُ على ابتلاع المصائب الشعوبُ المتأزمة من الأحداث التي تجري على أراضيها دون ذنب اقترفته سوى السكوت وعدم الوقوف صفاً واحداً للتعبير عن إرادتها، وفي الوقت نفسه تقف الحكومات العربية مكتوفة الأيدي أمام المشهدين. * دور "المتأسلمين" الطاغي، فهم يشاركون في توسيع الفتن الطائفية، ويسعون لاستغلال أي أزمة ليصبوا الزيت على النار، وجعلوا الإسلام والمسلمين عدواً للعالم بأسره، أما في الفضائيات فإن حضورهم يأتي من باب الرقابة والتسلط وتصيد الأخطاء والكيل بأكثر من مكيال وتطويع العقائد وفق أهوائهم، في محاولة لإيقاف عرض أي عمل تليفزيوني، ومن ثم تخضع الحكومات العربية وتذعن لإرادتهم، ولا تقوى إلا على منع عرض المسلسل، وفي جميع الحالات فإن "المتأسلمين" ليس لديهم أية حلول سوى "إهدار الدم"، سواء للقائمين على العمل في المسلسلات من جانب أو الذين يسعون لحل أزماتهم بالطرق السلمية والمتعقلة من جانب آخر. * يعتبر الصراع سمة مشتركة بين المسلسلات والأحداث، فالجميع في صراع شديد ودموي حول ثلاثية "السلطة والمال والمتعة"، ضاربين بالقيم والأعراف وأمن المجتمع وتماسكه عرض الحائط، متمسكين بمنطق "الغاية تبرر الوسيلة"، وعادة ما تكون الوسيلة غير مشروعة، فتضيع الحقوق وتصادر الحريات، سواء كانت حقوق المشاهد المقهور أو المواطن التعيس الذي دفعه مولده لأن يكون في زخم صراع لا ناقة له فيه ولا جمل سوى أنه عراقي أو لبناني أو فلسطيني أو سوداني أو صومالي. * التكلفة المادية العالية، فتجار الإعلام شطار مثل تجار السلاح، فكلاهما له تجارته التي تدر عليه الربح والمكاسب، وكلما زاد عدد المسلسلات، وتعاظمت الصراعات المسلحة، يتحقق الهدف من التجارة، وليس خافياً على أحد أن عائد مسلسلات رمضان هذا العام قد تجاوز ملياري دولار، وأن عائد بيع الأسلحة ومعدات القتال في صراعات منطقة الشرق الأوسط وحدها قد تجاوز مئة وخمسين ملياراً من الدولارات. * الحرفية العالية في إغراق المشاهد في التفاصيل لإطالة العرض من جانب، ولزيادة العائد من جانب آخر، وإذا كانت النهاية في المسلسل يمكن التنبؤ بها مقدماً، فإن اتساع رقعة التفاصيل في الأزمات والصراعات الدائرة على الأرض العربية وكثرة المتداخلين فيها، وعدد قضاياها، تزيد من إشكالية التوصل لحلول مناسبة لها، بل في كثير من الأحيان تكون هي الأسباب التي تدفع إلى استمرارها. وإذا كان للإعلام المرئي دور في تكريس المشهدين لدى المتلقي، فإن المشاهد العربي يعيش ملهاة إنسانية هو صانعها وضحيتها في آن واحد، فبات أمامه خياران لا ثالث لهما: إما الصبر انتظاراً لقضاء الله وقدره، وإما أن يبذل قصارى جهده ليقف في وجه من يحاولون العبث بفكره وأمنه واستقراره. ومبروك عليكم الشهر.