تضايق صديقي السعودي "الليبرالي جداً" بعد مشاهدة حلقة المسلسل التلفزيوني الأشهر والأنجح بين مسلسلات رمضان "طاش ما طاش" التي تناولت الانتهازية وعدم الاستعداد للتضحية في أوساط الليبراليين. تضايق صديقي لأنه كان من أشد المعجبين بشجاعة المسلسل الذي خرق محرماتٍ بشريةً فرضها الدينيون على كل من ينتقدهم. فالمسلسل السعودي الذي دخل في المحظور منذ سنوات بتطرقه لمشاكل في المجتمع السعودي، كان لمؤلفي حلقاته ومخرجه وممثليه السبق في تشجيع الناس على نقد من فرضوا على أنفسهم هالة وقدسية ما أنزل الله بها سلطان، وأنا أقصد هنا سياسيي الدين، ولا أقصد بأي حال من الأحوال الدين أو المتدينين. الحلقة المذكورة تصور مجموعة من "الليبراليين" يجلسون الجلسات التي يتناولون فيها الكؤوس وينظرون لنيتشه وكارل ماركس وإنجلز وجان بول سارتر، ويتنطعون في الكلام، و"يكبروا حكي" -على قول أهل الشام، لكن حين "اشتدت زيم"، وتعرض أحد رفاقهم للاضطهاد، انفضوا من حوله وتركوه وحيداً، وراح كل منهم في سبيله يبحث عن خلاصه، ضارباً بالمبادئ التي نادى بها عرض الحائط، ومفضلاً مصلحته وسلامته على التضحية من أجل مبادئه. عزا صديقي المتضايق من الحلقة سبب تضايقه إلى تجاهل الحلقة لتضحيات الكثير من "الليبراليين" من أجل ما آمنوا به، وراح يضرب المثل تلو الآخر، ويلوم "المطاوعة" في السعودية الذين ضغطوا لتمثيل مثل هذه الحلقة انتقاماً من خصومهم، وتشويهاً لصورتهم. فات صديقي الليبرالي أن الانتهازية سمة من سمات السياسة، لا بل إن السياسي الناجح هو السياسي الانتهازي، هذا ما علمنا إياه التاريخ، وهذا ما يشهد به الحاضر، وذكرت له نماذج من تاريخنا السياسي الإسلامي الذي ساد فيه الانتهازيون وحكموا، بينما ضحّى فيه المثاليون بأرواحهم وحياتهم، ونجحوا كنماذج ودروس تحتذى، لكنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم السياسية التي نادوا بها. ولا زلنا نتأسى اليوم بهم كنماذج، لكننا لا ننكر أن التاريخ سطره الانتهازيون الذين وصلوا إلى السلطة "بالتي واللتيا". حاولت التخفيف عن صاحبي بضرب أمثلة لا حصر لها على انتهازية كافة الفرق والملل والنحل السياسية، وبأن الانتهازية ليست هوية لصيقة بالليبراليين فقط، فالشيوعيون قدموا نماذج للانتهازية، ألم يسمع بالتروتسكية التي نعتها خصومها بالتحريفية، بينما ثار التروتسكيون لإعادة المسار الثوري البروليتاري للطريق الماركسي-اللينيني الصحيح؟ ألم يقرأ عن تضحيات الحزب الشيوعي العراقي وأدبيات الاتهامات بالانتهازية و"التطلعات البرجوازية"؟ وضربت أمثلة على الانتهازية "الدينياسية"، وهو مصطلح اخترعته من كلمتي الدين السياسي. فكم من ملتح رفع شعارات الدين لأغراض سياسية؟ بدءاً بخدعة التحكيم، وانتهاءً بتجار الدينياسية هذه الأيام، ورحت أسمي له بالاسم بعض "جمبازية" الأمس القريب الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى مراجع للفتاوى في زماننا الأغبر. الذين من نتاج فتاواهم تلك المتعلقة بإهدار الدم للخصوم، إلى فتاوى هدر حليب الأمهات لإرضاع الكبار من زملائهن في العمل! ورحت أقدم له نماذج الانتهازية "الدينياسية" في الكويت حيث كان "الإسلامويون" يحرمون بالأمس القريب تصويت النساء وترشيحهن، ناهيك عن توزيرهن، وما إن أقرت حقوقهن السياسية حتى تسابق أعداؤهن إلى كسب ودهن وأصواتهن، وتطالعك الصحف يومياً "بغبقة" (سحور) يقيمها هذا النائب أو ذاك للنساء في دائرته الانتخابية. ودخلت المرأة الحكومة كوزيرة لأول مرة، فما احتج أحد على دخولها عليهم إلى البرلمان "دون محرم". أما عن انتهازية من يدَّعون الليبرالية في الكويت، وهم "يقولون ما لا يفعلون" فحدث ولا حرج. وكثير منهم يرفع شعارات لا يعرف من معانيها سوى ما تحقق له من مكاسب مالية. مراعاة لمشاعر صديقي المتضايق من نقد الليبراليين لم أقل له: "من لا يقبل النقد، ليس بليبرالي".