يعرب العديد من أعضاء الجماعات اليهودية عن قلقهم من تدنيس اليهودية وتمييع الهوية اليهودية والاستهزاء بالتراث، كما ظهر في استخدام "التيفلين" كقطعة إكسسوار في العروض الغنائية والموسيقية، وكذلك تحويل مذهب "القبالاه" من حركة دينية صوفية مقدسة إلى حركة موسيقية غنائية ترفيهية استهلاكية. ويرى علماء الاجتماع أن "القبالاه" الشعبوية، تعد نوعاً من الردة إلى الخرافات، التي يأمل البعض أن تملأ الفراغ الروحي في حياة الأميركيين والإسرائيليين. ويرى آخرون أن هذه الصيحة الجديدة تكشف عن الذوبان الكامل لليهود في الثقافة والمجتمع الأميركيين. ويرى كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في إسرائيل وفي العالم الغربي أن ما تفعله مادونا لا يمت إلى اليهودية بصلة، لأن اليهودي الملتزم لا يسمح بعرض اسم من أسماء الله على الشاشة بهذه الطريقة التافهة على ألحان موسيقى الروك، كما أنه لا يستوشم الأحرف العبرية كما تفعل مادونا، لأن الوشم يعد إحدى عادات الشرك والوثنية، كما أنها بارتدائها تميمة الصلاة "التيفلين" وشال الصلاة "الطاليت" تخرق التعاليم الدينية اليهودية، فارتداء "التيفلين" و"الطاليت" أمر مقصور على الذكور، كما أن اليهودي المؤمن بتعاليم دينية لا يرتديها إلا كجزء من طقوس دينية وليس للرقص بها. ويرى أعضاء الجماعات اليهودية الأرثوذكسية أن انتشار "القبالاه" اليهودية بين غير اليهود، يحط من قدر معتقداتهم الدينية. ويذهب "رودجر كايمينيتس"، أستاذ الأديان بجامعة "لويزينيا"، إلى أن مادونا تتلاعب بالطقوس اليهودية بصورة فنية منفرة من خلال عرض الأحرف العبرية وارتداء قلادة "التيفلين" وأن ما تقوم به هو مزيج فريد من الإيمان والكفر". (النيويورك تايمز 18 يونيو 2004). وقد حذر الحاخامات أعضاء الجماعات اليهودية من الأغراض التجارية وراء الاحتفاء بمذهب "القبالاه"، وأكدوا أن "هناك خطراً كبيراً على الشريعة اليهودية على استخدام الاسم المقدس لمعلمنا الحكيم إسحاق لوريا مؤسس مذهب القبالاه لأغراض التجارة والربح". ويرى الحاخام "يتزشوق الدرشتاين" المتخصص في تدريس "القبالاه" ورئيس قسم القانون والأخلاق اليهودية بكلية "لويولا" للقانون في لوس أنجلوس أن أنشطة وتوجهات المركز ما هي إلا تجليات تراثية يهودية تقليدية غير صوفية، وجانباً منها هو مجرد خزعبلات. وهو يعزو ولع المشاهير بمركز "القبالاه" إلى الافتتان بكل ما هو جديد، وإلى بساطة هذا المذهب الذي لا يتطلب أي جهد أو عناء. وقد هاجم الحاخام "يوئيل بن نان" مؤتمر "القبالاه" الذي حضرته مادونا في إسرائيل، قائلاً إنه يرى بعض الناس بدأوا يستبدلون التوراة بتوراة أخرى صوفية أي "القبالاه"، لأن التوراة تحتوي على وصايا يشكل تنفيذها صعوبة، أما هذا التصوف فهو يزود المؤمنين ببديل مريح. ويرى الحاخام أنه ليس ضد دراسة "القبالاه" باعتبارها تفسيراً فريداً للتوراة، ولكنه ضد أن تتحول "القبالاه" إلى دين. كما أن التفسيرات "القبالية" كانت دائماً مقصورة على أشخاص لهم مقدرات استثنائية. ومادونا تتبع نوعاً من القبالاه تطلق عليه الصحافة الأميركية عبارة Pop Kaballah والتي يمكن أن نسميها القبالاه الشعبوية. (هآرتس، الموقع الإلكتروني 18 يوليو 2004). فهي تنتمي إلى مركز القبالاه العالمي الذي أسسه الحاخام "فيليب بيرج" في هوليود في كثير من أنحاء الولايات المتحدة لليهود وغير اليهود. والحاخام "فيليب بيرج" هذا هو "فايفل جروبرجر" الذي كان يعمل وكيلاً لشركة التأمين، أي بائع وثائق تأمين، وهي من أحط الوظائف في المجتمع الأميركي، وبالتالي يمكن القول إن "القبالاه" الشعبوية هي جزء مما يسمى حركة العصر الجديد the New Age movement، وهي الحركات شبه الدينية التي تحاول أن تملأ الفراغ الروحي الذي نتج عن التحديث والعلمنة. وهي عبادات كثيرة متنوعة. وقد استطاع الحاخام "فيليب بيرج" أن يؤسس ما بين 80 و100 فرع لمركز "القبالاه" الشعبوية. ويعمل المركز على نشر "القبالاه" بين جميع أفراد المجتمع الأميركي من اليهود وغير اليهود ويهدف -كما يدعي- إلى توفير سبل السكينة والطمأنينة. ولكن الحاخام "يتزشوق الدرشتاين" يرى أن السيد "ميشيل بيرج"، مؤسس معهد "القبالاه" العالمي، ليس من المؤمنين الملتزمين بمذهب "القبالاه" الحقيقي، فقد أصدر فتوى تقول إن من لا يفهم معنى "الزوهار"، وهو النص الأساسي للقبالاه باللغة الآرامية، يمكنه أن يستوعبه ببساطة إذا قام بتمرير إصبعه على كلمات النص أو ينظر إلى النص بدون قراءته. ويشير الكثيرون إلى الجانب التجاري (البيزينس) لمعهد "القبالاه" العالمي هذا، إذ يتم تشجيع أتباع "القبالاه" الشعبوية على شراء قلائد طقوس القبالاه للوقاية من الحسد. كما أن القائمين على المركز يوفرون أنواعاً من الشموع تساعد على القضاء على التوتر والقلق من عدم تحقق التوقعات (المبالغ فيها). وتباع الشمعة الواحدة بعشرين دولاراً، ويصل ثمن القميص الذي تنقش عليه أحرف "القبالاه" إلى 80$، كما أن السلسلة التي لابد أن يرتديها كل من يؤمن بهذا المذهب يصل ثمنها إلى 26$. ويستطيع الفرد أن يشتري زجاجاتِ المياه المباركةَ من الآبار الخاصة بـ"القبالاه" بسعر 2.5 $ للتر، كما يوفر المركز كريماً للبشرة يتسم بنوع من القداسة "القبالية". وتشير الإحصاءات إلى أن الدخل السنوي لمركز "القبالاه" يبلغ 5.5 مليون دولار، وتقدر الأصول التي يمتلكها بنحو 14.5 مليون دولار. ولذا يرى البعض أن هذا المركز ليس مجرد مركز للدعوة الروحانية الصوفية الزاهدة، وإنما هو مركز تجاري استهلاكي رأسمالي ضخم. وليس من قبيل المصادفة أن يدعو هذا المركز العالمي أنصاراً أثرياء مثل مادونا، كي تفيد وتستفيد، كي تمنح البركة وتحصل عليها في نفس الوقت! ففي أحد العروض الموسيقية الغنائية، التي نظمها مركز "القبالاه"، ظهرت مادونا، وهي ترتدي (تي. شيرت) يحمل شعار "أنصار القبالاه يؤدونها بطريقة أفضل" Kabbalists do it better، وهى عبارة مبهمة. وكان وراءها على خشبة المسرح مجموعة كبيرة من الراقصين والراقصات الشباب، وهم يرتدون أحزمة سُوداً تشبه "التيفلين"، وليس بمستغرب أن نجد الجمهور الاستهلاكي المولع بطقوس "القبالاه" وهو يتزاحم ويتدافع من أجل شراء تذاكر هذا العرض رغم أن قيمة التذكرة الواحدة بلغت 317$، كل ذلك من أجل معرفة الشىء المذهل الذي سيحققه أتباع "القبالاه". ومن الملاحظ أن كثيراً من مشاهير قطاع اللذة والترفيه في المجتمع والسينما والتليفزيون يتوجهون نحو "القبالاه" والتصوف الحلولي مثل "ديمي مور" و"روزين بار" و"بريتني سبيرز" و"مايك تايسون" و"باربرا سترايساند" و"اليزابيث تايلور". وقد فسر هذا أنه بحث عن معنى روحي، لأن حياتهم المهنية تفتقر إلى بؤرة وقيم ثابتة، وأنه جزء من موجة الإيمان بالخرافات التي اجتاحت المجتمع الأميركي، مثل الإيمان بقراءة الطالع والعبادات شبه الدينية التي أشرنا لها من قبل. والإيمان بـ"القبالاه" الشعبوية مرتبط تمام الارتباط بالنزعة الاستهلاكية المرتبطة بدورها بالبحث عن الجديد والمثير. فقد لوحظ أن كثيراً من الأطفال غير اليهود بدأوا يحتفلون بالبار ميتسفاه والبات ميتسفاه (بلوغ سن التكليف الديني عند اليهود) عندما يبلغون سن الثالثة عشرة بعد أن شاهدوا هذه الاحتفالات، التي أقامها أقرانهم اليهود. وبطبيعة الحال لا يقوم مثل هؤلاء الأطفال بتلاوة البركات على التوراة التي هي من أهم طقوس "البار متسفاه". أما الكبار فيعبرون عن ولعهم بما هو يهودي من خلال زيارة دور العبادة اليهودية، كما يتجلى تأثير مذهب "القبالاه" في حفلات زواج غير اليهود. فقد صرحت إحدى المختصات بتوثيق عقود الزواج في لوس أنجلوس لصحيفة يهودية، بأن كثيراً من المقبلين على الزواج من المسيحيين والبوذيين يبدون رغبة شديدة في عقد قرانهم على الطريقة اليهودية لأنهم يستشعرون في طقوس "القبالاه" لمسة رومانسية لا مثيل لها، لمسة رومانسية وليس دينية، وهكذا يتحول الطقس الديني إلى طقس دنيوي علماني، فانتشار الرموز والطقوس اليهودية لا يعني اختراق اليهودية للمجتمع الأميركي، بل العكس اختراق المجتمع الأميركي، بنزعته الاستهلاكية وتوجهه الحاد نحو اللذة، للعقيدة اليهودية. وهذا ما يوافق عليه كثير من المفكرين والحاخامات اليهود، خاصة الأرثوذكس. فالأميركيون اليهود حين يتبنون الرموز والطقوس اليهودية، فهم يتبنونها بعد تفريغها من مضمونها الديني أو الأخلاقي ويحولونها إلى وسيلة من وسائل الترفيه. والله أعلم.