ترجم هذا الكتاب ونشر باعتباره آخر الكلمات التي سجلتها الصحفية الروسية القتيلة "آنا بوليتكوفسكايا" عما رأت فيه سجلاً لانتكاسة بلادها وتراجعها في كل شيء خلال سنوات عهد الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. لكن قبل الدخول إلى موضوع هذا الكتاب، وجب التذكير بأن بوليتكوفسكايا تعد إحدى أجرأ الصحفيين والصحفيات الروس، وأن أصابع الاتهام الوحيدة التي وجهت بشأن مصرعها المأساوي بطلق ناري من قاتل مأجور في ربيع العام الماضي، لها صلة بانتقاداتها الجريئة التي كانت توجهها إلى الكرملين وقيادته. وقبيل مصرعها بوقت قصير، أكملت الصحفية هذا العمل الأخير الذي تناولت فيه مظاهر الحياة الروسية خلال الفترة الممتدة بين انتخابات "الدوما" الروسي التي أجريت عام 2003، وحتى صيف عام 2005. والملاحظ أن الأمة الروسية لم تكن لتتجاوز بعدُ محنة وصدمة الحصار الذي ضرب على مدرسة "بيسلان"، بينما لم تغب عن ذاكرتها مأساة مذبحة مسرح موسكو الشهيرة. وفي يومياتها هذه، يمكن القول إجمالاً إنها لخصت حجم الدمار الذي حاق ببلادها وشعبها إبان إدارة بوتين الحالية، أي أن الكتاب كله جاء بمثابة صيحة حق أخيرة جهرت بها المؤلفة مباشرة قبيل رحيلها. كما يمكن القول إن الكتاب جاء وصفاً لما رأت فيه الكاتبة مجتمعاً يختنق بين براثن الفساد واللامبالاة من قبل السلطة الحاكمة. فمع مقدم الانتخابات البرلمانية الروسية، صورت المؤلفة كيف لجأ بوتين إلى تكتيكات "تغييب" معارضيه، إما باعتقالهم أو إخراس أصواتهم بطريقة أو بأخرى، وكيف أنه لجأ لقمع الصحافة وتكميم الأفواه. أما العائد السياسي القصير المدى من كل هذه التكتيكات والإجراءات، فهو تحقيق نصر انتخابي ساحق له ولأنصاره، في مقابل إغراق الشعب الروسي في دوامة من الشعور العام باليأس والإحباط. ومما سجلته الصحفية القتيلة حول مظاهر الفساد والتناقضات في بلادها، أن أقلية فاحشة الثراء في العاصمة موسكو، كانت تنفق إنفاق من لا يخشى الفقر ولا يأبه لتبذير آلاف الروبلات في ليلة ماجنة واحدة حمراء، بينما يتضور الجنود جوعاً ويلقون حتفهم من شدة البرد في أطراف البلاد وحدودها النائية. وفي بيئة كهذه، أضحت الهجمات الإرهابية حدثاً يومياً عادياً لم يعد يثير استغراب أحد، بينما تواصلَ انكماش الحريات الأساسية. ولم تكن حادثة اختطاف ما يزيد على 1200 طفل في مدرسة بيسلان في سبتمبر 2004، سوى تعبير عن بلوغ تلك الهجمات الإرهابية ذروتها. وقد ألقت كل الأحداث المأساوية بظلالها القاتمة على الأسلوب النثري للكاتبة، فنراها وهي تصور بمزيج من مشاعر الغضب والانفعال، ما آلت إليه الحياة الروسية من رعب وعبثية في ظل إدارة بوتين. ثم إن مادة هذا الكتاب ليست كلها كتابة تحليلية تأملية فردية قامت بها المؤلفة، وإنما اشتملت على عدد من الحوارات الصحفية التي أجرتها بوليتكوفسكايا، كان أحدها مع أمهات أحد الأطفال القتلى في حصار مدرسة بيسلان. وقد سلطت المؤلفة الضوء على الجانب الإنساني المتصل بهذه الحادثة، من تشبث الأم بوهم احتمال عودة ابنها القتيل إليها ذات يوم. ومن هذه الزاوية الإنسانية تناولت المؤلفة دلالات عبثية الحياة وانعدام الطمأنينة العامة والأمن في ظل إدارة بوتين الحالية. كما شملت المقابلات أيضاً، الحوار الجريء الذي أجرته المؤلفة مع أحد لوردات الحرب الشيشانيين في معقل قيادته. ومن الناحية الوصفية العامة، فإنه يمكن القول إن هذه اليوميات حاولت نسج خيوط الأمل باليأس والمأساة معاً، لترسم صورة مهشمة عن روسيا اليوم. فبقدر ما يثير إنشاء "حزب أمهات الجنود الروس" من مشاعر الأمل والتفاؤل، بقدر ما تقضي على هذه المشاعر وحشية الشرطة وأجهزة المخابرات والأمن الروسية، بقدر ما تقتلها مظاهر تفشي الفساد السياسي والمالي في البلاد. وانطلاقاً من رؤيتها الخاصة لهذا الواقع المأساوي الذي لا يحفز على التفاؤل تحت كل الأحوال، كان من رأيها ما سجلته في يومياتها هذه أن من حق من يريد الأخذ بالتكهنات الخادعة المتفائلة بمستقبل هذا الواقع القاتم أن يفعل. غير أن عليه أن يدرك أن أسهل الطرق والخيارات المتاحة للإنسان هي أن يتجاهل الواقع أو يتناسى وجوده، ليتفاءل بما هو ليس واقعياً ولا قابلاً للتحقق... وهذا ما لا ترضاه الكاتبة لنفسها. ثم إن من أسهل الخيارات الصمت على ما يحدث وكأنه لم يكن. وهذا هو ما دفعت الكاتبة ثمناً غالياً له برفضها للصمت والجهر بصوتها في انتقاده وتشريحه. وهناك من علّق من الصحفيين وكبار الكتاب العالميين على قيمة هذا الكتاب، على نحو ما فعلت كريستيان أمانبور، رئيسة وكالة شبكة "سي إن إن" الدوليين بقولها: "إن سعي بوليتكوفسكايا الذي لا يحيد وراء الحقيقة في مواجهة الخطر وقوى الظلام، إنما ينهض دليلاً على المكانة الرفيعة التي احتلتها في مجال العمل الصحفي. وهذا ما يعطي كتابها استحقاق اهتمام القراء به وتصفحه". وهناك من رأى أن بوليتكوفسكايا شأنها شأن كل صحفيي التحقيقات الشجعان، قد صورت حقيقة الحياة الإنسانية وساهمت في إعادة كتابة التاريخ الرسمي. وهذا ما يحملنا على قراءتها والتعلم منها لسنوات وسنوات قادمة. إلى ذلك لاحظ قارئ آخر للكتاب أن أفضل طريقة لتخليد سيرة الصحفية القتيلة هو أن ندون في دفتر يومياتنا ما دونته هي وضحّت من أجله بحياتها كلها. ــــــــــــــــــ عبد الجبار عبد الله الكتاب: يوميات روسية: سجل العودة إلى الوراء المؤلفة: آنا بوليتكوفسكايا الناشر: مجموعة "راندوم هاوس" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2007