تحدث الرئيس السوري بشار الأسد لمحطة الـ"بي بي سي" البريطانية المسموعة بصورة جيدة جداً في المنطقة العربية كلها. وقد تحدث كالعادة بصورة هادئة وإن كانت حازمة وقوية وذات منطق. تحدث عن الموقف السوري من لبنان والعراق ومن العدوان الإسرائيلي ضد سوريا مؤخراً، والأهم أنه تحدث بطلاقة عن الموقف السوري من المفاوضات التي دعا لها الرئيس الأميركي جورج بوش في الولايات المتحدة والمقرر عقدها حتى الآن في نوفمبر القادم. جوهر ما قاله الرئيس السوري هو ما اتفقت عليه عدة دول عربية. وكانت السعودية قد أعلنت على لسان وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل أنها لن تحضر المؤتمر إن لم يتناول القضايا الجوهرية في الصراع العربي الإسرائيلي. وأكدت مصر نفس المعنى وإن بلغة أقل حزماً على لسان وزير خارجيتها أحمد أبو الغيط ثم على لسان رئيسها حسني مبارك الذي أعلن أنه لن يحضر هذا المؤتمر بنفسه وإن لم يغلق الباب أمام حضور مصر رسمياً بتمثيل أقل. وانتهى الرئيس السوري إلى أن بلاده لن تحضر المؤتمر إن لم يكن له جدول أعمال واضح يشمل القضايا الجوهرية؛ سواء على الصعيد الفلسطيني- الإسرائيلي أو على الصعيد السوري- الإسرائيلي، فضلاً عن قضية لبنان بالطبع والتي تكاد تتركز في مزارع شبعا. وإن قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يلحق بالموقف العربي، فالعرب كلهم تقريباً سيتجهون لمقاطعة وإجهاض المؤتمر الذي دعا له الرئيس الأميركي. هذا الموقف العربي يتمتع بمنطق قوي للغاية مستنداً إلى ثلاثة اعتبارات رئيسية. الاعتبار الأول أنه لو عقد المؤتمر من دون جدول أعمال حقيقي يشمل القضايا الجوهرية، فهو يفتقد لشروط الجدية وسيكون مجرد منحة عربية لإدارة بوش من دون مقابل. فهذه الإدارة التي لم تقم منذ أن انتخبت عام 2000 بأي شيء إيجابي تجاه السلام وركزت كل جهودها على الحرب تحصل على شرعية شرق أوسطية وعربية من دون أن تغير من سياساتها في المنطقة واتجاه بناء السلام وتحقيق شيء من العدل للشعب الفلسطيني والسوري واللبناني. وليس هناك أي سبب وجيه لتمكين إدارة بوش من تجنب النقد العالمي والمحلى الأميركي لسياساتها التي تجاهلت قضية السلام وحقوق الشعب الفلسطيني لأكثر من ست سنوات متصلة، خاصة إن كان المؤتمر المزمع هو مجرد استمرار لنفس السياسة. وسوف يكون هذا المؤتمر أكثر سوءاً من لعبة علاقات عامة تبرئ بوش وإدارته. وكما هو معروف، فإن أميركا تضغط على العرب للتطبيع مع إسرائيل قبل أن تقوم إسرائيل بتنفيذ تعهداتها وفقاً لأطنان القرارات والاتفاقيات التي أبرمتها مع فاعلين عرب بمن فيهم بالطبع منظمة التحرير الفلسطينية. وقد يقدم المؤتمر غنيمة تطبيع مع إسرائيل كما يريد الأميركيون من دون أن يحققوا السلام العادل والشامل أو أي شيء شبيه به. الاعتبار الثاني يتعلق بسياق المؤتمر. فهو عقد كصفقة يفترض أن تمنح الفلسطينيين شيئاً مقابل التغطية أو التعاون العربي في المشروع الأميركي لحصار ومعاقبة إيران وربما ضربها عسكرياً. ولأن الأميركيين، كما صرحت كوندوليزا رايس، ليسوا ملتزمين بمناقشة القضايا الجوهرية فهم ينوون في الواقع الحصول على تعاون النظم العربية حول قضية العراق وضد إيران في مقابل أقل القليل وهو ما قد لا يزيد كثيراً عن مجرد تحسين الظروف المعيشية في الضفة (مع مضاعفة صعوبات المعيشة في القطاع), وهو بالتأكيد ما لا يرضي الزعماء العرب لأن صفقة بائسة كهذه تضاعف أزمة شرعيتهم أمام شعوبهم. أما الاعتبار الثالث والأهم فهو أنه لم توجه دعوة مباشرة لسوريا لحضور المؤتمر. ويعني ذلك أن المناقشات بين الجناح الواقعي الجديد وجناح المحافظين المتشددين في واشنطن لم يحسم بعد وأن إدارة بوش ستستمر لأجل غير معلوم في محاصرة سوريا سواء حضرت المؤتمر أو لم تحضر. لكن المصالح العربية العليا كانت تملي وضع عدة اعتبارات أخرى في الميزان. فرفض المشاركة في مؤتمر واشنطن المزمع يعني أن المبادرة الدبلوماسية والسياسية الوحيدة تسقط، وهو ما يعيد المسألة الفلسطينية للفراغ لفترة غير محددة في المستقبل. ويرتبط بذلك عامل آخر وهو احتمال أن تحضر السلطة الفلسطينية برئاسة أبو مازن هذا المؤتمر أو تضغط على عدد من الدول العربية، وخاصة مصر والسعودية للمشاركة ولو بتمثيل منخفض مع عدم حضور سوريا، وهو ما يوقع العالم العربي في مزيد من الانقسام والاضطراب. هذه الاعتبارات المتناقضة تقودنا إلى المسألة الحاسمة في أية مناقشة جادة لموضوع المشاركة أو عدم المشاركة. فقد دعا بوش لهذا المؤتمر قبل أن يحسم قراره النهائي بصدد إيران. وفي هذا السياق يصعب للغاية تصور أن يسفر التفاوض حول تسوية سياسية عن نتائج جوهرية لصالح الشعب الفلسطيني ولصالح سوريا. فلن تضطر الولايات المتحدة للقيام بجهد حقيقي لتمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقوقه السياسية قبل أن تتأزم بدرجة أكبر أوضاعها الاستراتيجية والسياسية في المنطقة أو تلحق بها هزيمة سياسية واستراتيجية جوهرية سواء في العراق أو في المواجهة مع إيران أو في المجالين معاً. غير أن رهن المصالح الجوهرية لسوريا والشعب الفلسطيني بحسم الصراع الذي تعد إيران اللاعب الرئيسي فيه، مخاطرة غير مأمونة العواقب إطلاقاً. فمن المستعبد للغاية أن تفوز إيران بالصراع إلا على المدى الطويل جداً. ومن ناحية أخرى فالحل العسكري ضد إيران سيزج بالعلاقات العربية- الإيرانية في نفق مظلم لفترة طويلة جداً كذلك. فان لم يكن حضور هذا المؤتمر قبل حسم الصراع الاستراتيجي في المنطقة، ضارا بالقضايا العربية الرئيسية، وإن كان انتظار هذا الحسم مخاطرة استراتيجية ضارة بدرجة أكبر, فما هو الموقف العربي السليم؟ يبدو لي أن الطريق الوحيد المفتوح أمام العرب هو أن يعودوا لتشكيل قوة عمل مستقلة في السياسة الإقليمية بما يسمح لهم بتغيير الموقف الاستراتيجي في المنطقة بصورة جذرية على نحو يفكك الموقف المتفجر ويضغط على واشنطن ضغطاً حقيقياً في نفس الوقت لتبني صيغة مقبولة للسلام العادل في المنطقة. ولا يمكن للعرب الأخذ بهذا الطريق إلا بإعادة بناء التوافق الاستراتيجي العربي وخاصة على المحور المصري السوري السعودي الفلسطيني، مع إسناد قوي من جانب بقية الدول العربية. فإن ذهبنا إلى واشنطن منقسمين ومشتتين ومن دون أية رؤية إيجابية لمستقبل المنطقة، سنخسر كثيراً, وإن اكتفينا بانتظار حسم الصراع في المنطقة نخسر كثيراً أيضاً. والحل الوحيد هو إعادة الإمساك بزمام المبادرة الاستراتيجية وطرح أفكار كبرى وإسنادها بقوة حقيقية، وهو ما يتوقف بدوره على إعادة بناء التوافق الاستراتيجي العربي. كان ذلك ولا يزال واجب ومصلحة سوريا العليا، وهو بديل أفضل من التحالف الكامل مع إيران وبديل أفضل أيضاً من دفع الأطراف العربية الأخرى للارتماء في المعسكر الأميركي وبديل أفضل من التسليم من دون قيد أو شرط أمام الضغوط الأميركية أو التسليم بالهيمنة الأميركية. والسؤال هو ما إذا كان لدى سوريا بالذات الاستعداد للقيام بمبادرة كبرى في هذا الاتجاه.