إذا كانت البلدان العربية جادُّة في رغبتها للانتقال إلى النظام الديمقراطي، فعليها حلُّ إشكالية الفقه السياسي الإسلامي عند السنّة والشيعة معاً. فكلا المدرستين تطوّرتا عبر العصور لتصلا إلى طريق مسدود يتعارض مع مبادئ الديمقراطية التي عرفها العالم. فبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة ظهر توجّهان بالنسبة للخلافة: الأول ينادي بأحقية أهل البيت، والثاني ينادي بأحقية قبيلة قريش. لكن هذا الخلاف اتسع وتطوُّر لينتهي بظهور مدرستين في السياسة تستعملان الدين كمرجعية لمبادئهما وأهدافهما وممارساتهما. فمدرسة آل البيت انطلقت من إيمانها بضرورة دينية لوجود إمام للأمة الإسلامية يقودها في أمور الدين والدنيا، شريطة أن يكون معصوماً ومعيُناً بنص. لكن توقف الإمامة عند الإمام الثاني عشر الذي غاب عن الأنظار، اضطرٌّها لتبنٍّي نظرية ولاية الفقيه، الفقيه الورع العادل الذي ينوب عن الإمام الغائب في قيادة الأمة، الدينية والدنيوية. أمّّا المدرسة الأخرى فانطلقت من مبدأ الشورى المنصوص عليه قرآنياً، لكنها ظلُّت شورى محصورة في جماعة صغيرة من أهل الحل والعقد إبُّان عهود الخلفاء الراشدين الأربعة، لتنتهي إلى أن تصبح مُلْكاً عضوضاً عند الأمويين ومن جاء بعدهم. ومع مرور الوقت أصبح هذا الملك نظاماً قبلياً استبدادياً يعتمد على الغلبة أو العصبية القبلية وينظِّر له فقهاء وكتّاب بشتّى التبريرات. إذن نحن أمام إرث ضخم من الفكر الفقهي السياسي الذي تأثًر كثيراً بأحداث ومتطلبات تاريخ المسلمين المليء بالاضطرابات والفتن والصراعات القبلية والمذهبية الدينيًّة. وهو إرث اعتمد على العقل السياسي العربي القبلي مغموساً في مخيال ديني ملتبس وجد عند كثير من فقهاء الأمة في الماضي والحاضر. إنه إرث يخيٍر الأمة بين تسليم زمام السياسة وأمور الحكم إلى فقيه أو مجموعة صغيرة من الفقهاء ، كما تطالب به نظرية ولاية الفقيه التي أوصلها إلى قمٌّة تجلياتها الإمام الخميني، أو القبول بنظام للحكم ملتبس غامض بالنسبة لأسسه ومحٍّدداته وشرعيته، كما مورس عبر خمسة عشر قرناً من قبل حكام العرب والمسلمين. إنه خيار يحتاج إلى أكثر من تعديل بسيط وتضبيط من هنا أو هناك. إنه يحتاج إلى قفزة كبيرة في فقه السياسة وأمور الحكم تأخذ بعين الاعتبار قراءة جديدة للقرآن والسنُّة والفقه والتاريخ من جهة، وإلى فهم واستيعاب لعلوم العصر وتجارب الآخرين وإصراراً على الخروج بنظرية سياسية متماسكة تنقل العرب إلى فضاء مبادئ الحرية والعدالة والمساواة وحكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب من جهة ثانية. إنه سيحتاج، كما سبق وأن كرًّرنا مراراً، إلى مدرسة فقهية جديدة تعالج، من بين ما تعالج، تنظيم المجتمع السياسي في بلدان طال وجود ظلام الاستبداد والفوضى في إرجائها. إن الذين يحلمون باستنبات الديمقراطية في أرض العرب من دون تهيئة تربتها ومن دون إزالة ما علق بها من أشواك وحشائش طفيلية ضارة، سيواجهون خطر سوء الفهم للديمقراطية وسوء ممارستها كما حصل مراراً وتكراراً. لذا فمن الضروري أولاً تحليل الفقه السياسي القديم وإعادة قراءته ثم تجاوزه إلى فقه سياسي جديد. والطريق إلى الديمقراطية يجب أن يبدأ من حيث انتهى الفقه السياسي عندنا، لا من حيث انتهى الأدب السياسي عند الآخرين اللهمًّ إلاُ إذا أريد للديمقراطية في أرض العرب أن تتشوّه وتقلب إلى سلاح جديد في يد أعدائها كما فعلوا من قبل برسالات السماء! د. علي محمد فخرو