مع حلول يوم 11 رمضان 1428 هـ، الموافق 23 سبتمبر 2007م، كان الدولار الأميركي يلهث منبطحاً؛ إن تحمله يلهث وإن تتركه يلهث! فقد قفز الدولار الكندي من 260 هللة إلى 380 هللة، أما اليورو فحلق مثل النسر فوق الذرى من 370 هللة إلى 550 هللة! وهو يذكرني بقصة مريض السرطان، ففي يوم كان مقابل المارك الألماني أيام ريجان 360 بفنك (البفنك وحدة المارك سابقاً مثل الهللة من الريال السعودي)، ليسقط كما تنبأ له المثل "ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع"! لقد سقط كسقوط الطيور على الأرض مثل قذائف المدفعية! والآن يلهث الدولار ويضبح؛ فقد بلغ في خريف 2007 بعد كارثة سوق العقارات دولارا أميركيا مقابل دولار كندي، بل أقل، فنحن علينا أن نشتري، مثلنا مثل كل المنكوبين المهاجرين الذين فقدوا أوطانهم، الدولار الأميركي بـ99 سنتاً من الدولار الكندي، فتبارك الله أعظم المنتقمين! حقاً إنه أمر عجيب أن تكون أقوى الأمم عسكرياً أضعفها اقتصادياً، ولكن هذا أول الغيث... و"بول كيندي"، المؤرخ الأميركي المعروف، يتنبأ لأمته بالأسوأ، وهو يتوقع انهياراً تدريجياً لأميركا سيبدأ من دمها الاقتصادي، لتصبح شاحبة بائسة مثل مرضى الأنيميا. يقول "كيندي" إن ذلك سيحدث وفقاً لقانون "فرط التمدد"، وهو مرض يصيب القوى العظمى التي تترهل قبل السقوط. وأول مظاهر الانهيار هو الاقتصاد، فتصبح أميركا تعيش فوق إمكانياتها، مثل موظف راتبه 3000 ريال ويعيش حياة البذخ بثلاثين ألف ريال، وهو ما تفعله أميركا من شرب البترول بأقداح دهاق عظيمة أكبر من أقداح البيرة، فهو لها شرب من حميم، وشرب الهيم من النفط الذي تشن من أجله الحروب وتحيك حوله المؤامرات، ويندلق في أمعائها ربع الاحتياطي العالمي منه... وكل النصائح اليوم تقول: إنه اقتصاد كسيح ودولار مريض مثل المجذوم، ففر منه فرارك من الأسد. ومن أعجب ما سمعت من "مور" (الأميركي السمين) أن 900 مليار دولار من أموال الخليج هي العمود الفقري لأميركا، فإذا سحبت استلت روح أميركا. وذات يوم نشرت مجلة "دير شبيجل" الألمانية تحقيقاً عن ثروة الوليد بن طلال قائلة إنها تجاوزت 11 مليار دولار، وعلقت "لم يعد العرب مغفلين"، ثم استعرضت قائمة استثماراته فرأيت الكثير منها في بنوك غربية. وأسمع أحياناً عن حركة استقطاب لحاملي جائزة نوبل ليساهموا في النهضة العربية، لكن هؤلاء نباتات مناسبة لتربة مناسبة. وأتصور أحدهم يلقي محاضرات على نمط كلينتون بـ225 ألف يورو عن الساعة، لينصرف بعد أن يملأ الجيب، ويشتم العرب قائلاً إن رائحتهم قذرة ومتخلفون وفاسدون وأغبياء! وزويل مثلاً الذي وصل للفيمتو ثانية في تفتيت وحدة الزمن، لو كان في مصر؛ لكان يبيع الفلافل في باب زويلة، ولم يلمع يعقوب ملك القلوب لو لم توضع تحت أقدامه تربة مخيفة من الإمكانيات. وأنا لو بقيت في القامشلي، ولم أغادر لبلاد الألمان، لما أصبحت جراح أوعية دموية، ولرسى مصيري على موظف بريد براتب 160 ليرة، كما كانت طموحات والدي في أشدها جنوحاً... وحالياً يعيش العرب حالة عجيبة من الغنى -الفقر؟؟ فأموالهم ليست لهم، وإذا زادت وتدفقت عائدات النفط وأصبح سعر البرميل من البترول 90 دولاراً؛ فيجب أن ترجع الأموال في دورة مجنونة من التسلح! وفي التراث العربي أن غلاماً كان له وصي؛ فكان يأتي في نهاية كل عام فيذكر للغلام أمواله، وفي النهاية يمتحن رشده فيقول له: يا بني صرفنا هذا العام كذا من المال في ثمن شراء نعال للجمال! حتى جاء عام فوقف الغلام وقال: يا عماه إنني أعرف أن الجمال لا توضع لها نعال! قال رشدت يا بني وهذه أموالك أرجِعُها لك فقد كان امتحاناً لرشدك... وستبقى أموالنا ليست لنا حتى نرشد! وفي القرآن أن السفهاء يحجر عليهم ولا تدفع لهم أموالهم إسرافاً وبداراً حتى يكبروا ويرشدوا!