يأتي الحديث عن تقسيم العراق وتوزيع ثرواته "طائفياً" في وقت العراق بأمسِّ الحاجة فيه إلى الوحدة والاتحاد والتآزر ولمِّ شمل الشعب من أجل إعادة بناء بلد دمر فيه كل شيء. أما اللافت في هذا الحديث أن من يطالبون به يقترحون اعتماد النموذج الإماراتي لبناء عراق جديد مقسم.. وهذا الكلام غير دقيق، كما أنه غير واقعي، ولا يقوم على أساس قوي، بل على العكس تماماً، لأن ما يطالبون به هو عكس النموذج الإماراتي، ففيدرالية الإمارات جاءت أساساً لتنشئ دولة واحدة من عدة إمارات صغيرة، أما فيدرالية العراق المزعومة، فهي تريد أن تقسم بلداً واحداً إلى ثلاثة أو أربعة أقاليم وتطلق عليها دولة فيدرالية؟ كما أن فيدرالية الإمارات قائمة على أساس بناء وطن واحد ومواطن واحد لا يختلف عن أخيه المواطن في الإمارة الأخرى في شيء. أما الفيدرالية العراقية، فهي قائمة على أساس طائفي، فكل إقليم لطائفة والمواطنون مختلفون في كل إقليم، وغالباً ما سيكون حالهم متفاوتاً بين إقليم وآخر. فيدرالية الإمارات بها كلمة سر كبيرة هي "الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان" رحمه الله وطيب ثراه، هذا الرجل الذي آمن بالوحدة والاتحاد، فأراد أن تكون هذه الدولة من تسع إمارات، إلا أن سبعة حكام فقط هم الذين أيدوه وسارعوا الى دعم مشروعه الاتحادي الفريد. الشيخ زايد "رحمه الله" لم يكن بحاجة إلى عملية ديمقراطية أو إلى أحزاب كي يحكم البلاد، ولم يكن بحاجة إلى أن تكون له علاقات قوية في الخارج أو حلفاء يدعمون كل ما يريد أن يقوم به، فكل ما احتاج إليه كي يبني وطناً متحداً وقوياً، هو ثقته في شعبه وإيمانه بالاتحاد وأهميته وتأكيده على المساواة بين جميع سكان الإمارات السبع في كل شيء وعدم إيجاد أي شكل من أشكال التفرقة، كما كان بحاجة إلى رجال مخلصين يقفون إلى جانبه ويدعمونه في هذه التجربة العظيمة، وكان رفيقه القوي الأمين هو المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي الأسبق الذي لم يدخر جهداً كي يرى اتحاد الإمارات النور وعمل مع الشيخ زايد "رحمهما الله" خطوة بخطوة، وساعة بساعة، وذللا كل الصعاب من أجل تحقيق حلم إقامة دولة الاتحاد، التي كان المستفيد الأول فيها هم مواطنو الإمارات السبع، الذين دعموا هذه التجربة وما يزالون. الحقيقة أن أي مشروع وحدوي كي ينجح يحتاج إلى رجل بمواصفات الشيخ زايد "رحمه الله" رجل بعيد النظر... طيب القلب... حاسم وحكيم... وفوق كل ذلك كريم يعطي بسخاء، ويحب للآخرين ما يحبه لنفسه، ويحب للشعوب الأخرى ما يحبه لشعبه. رجل لا يفرق بين أبناء شعبه على أساس طوائفهم أو أصولهم أو عروقهم أو حتى قبائلهم، لذا فإن تجربة الإمارات تكاد تكون التجربة الوحيدة الاتحادية، التي تمت من دون قطرة دم واحدة، وإنما ترسخت وقويت بحكمة وكرم الشيخ زايد "رحمه الله"، في حين نرى أن أغلب محاولات الاتحاد والوحدة في التاريخ تمت بالحروب وأريقت فيها الدماء. المشروع الاتحادي بحاجة إلى أن يكون وراءه رجل عظيم، ومع احترامي للجميع مَن هو هذا الرجل في عراق اليوم؟ كل من نراهم في العراق هم مجموعة ساسة يحبون أنفسهم أكثر مما يحبون الآخرين ويؤيدون أحزابهم، وإن كانت على باطل وينتصرون لطائفتهم وإن ارتكبت الأخطاء الواحد تلو الآخر، فكيف يمكن تشبيه هذه الفيدرالية المراد تطبيقها بفيدرالية الإمارات؟ بل كيف يمكن أن تقوم دولة على هذا الأساس؟ كل ذلك وغيره يؤكد أنه لا شبه بين فيدرالية الإمارات وما يراد من تقسيم للعراق وإعادة تركيبه على الطريقة الإماراتية، فكل المعطيات تقول إنه ليس هناك رابط بين الفكرتين. مع كامل التقدير لكل الآراء إلا أن تقسيم العراق لم يعد مسألة عراقية بحتة، وعلى الرغم من أن غالبية العراقيين لا يريدون التقسيم إلا أن مجموعة صغيرة من السياسيين هم الذين يحلمون بهذا التقسيم لتعزيز مكتسبات حصلوا عليها وإضافة مكتسبات سياسية ومادية إضافية. السياسيون الذين روجوا لاحتلال العراق ووضعوا البلد في هذه الورطة التاريخية الكبيرة لا يريدون أن يعترفوا بخطئهم السابق، بل يتمادون فيه ولا يكتفون بتعريض بلدهم للاحتلال والنهب والقتل والدمار ويأتون اليوم ليكملوا على ما تبقى من العراق العظيم ليحولوه إلى إقطاعيات تعمل لحساباتهم الخاصة. إذا كان بعضهم اعتقد في العام 2003 أن قرار احتلال العراق قرار عراقي داخلي، فلا شك أن الجميع اليوم مقتنعون بأنه لم يكن كذلك، لأن تأثيرات هذه الحرب لم تقتصر على العراق، وإنما على المنطقة بأكملها. وهذا ما يدعو دول مجلس التعاون الخليجي أن تحمي الشعب العراقي وتحمي شعوبها ومكتسباتها من خطر التقسيم وتطلعات فئة لا تتمتع بشيء من بعد النظر. فكرة تقسيم العراق مرفوضة من الأساس، فالعراق ليس بحاجة إلى أي شكل من أسماء التقسيم مهما تفنن بعضهم في إطلاق المصطلحات والمسميات الرنانة على تلك العملية، فالعراق يجب أن يبقى بلداً واحداً كما كان طول تاريخه. قرار تقسيم العراق ليس راجعاً للكونجرس الأميركي ولا راجعاً إلى مجموعة صغيرة من السياسيين العراقيين الذين يتحكمون في العراق اليوم وإنما هو قرار راجع للشعب العراقي فرداً فرداً، كما أن لدول الجوار والمنطقة كلمة في قرار تاريخي ومصيري كهذا، لأن تأثيراته بلا شك ستتعدى الحدود العراقية. وأكثر المعنيين بهذا القرار من دول الجوار، هي دول مجلس التعاون الخليجي، إذا كانت هذه الدول لم تتخذ موقفاً "واضحاً وصريحاً" في رفضها لاحتلال العراق في العام 2003 فيفترض أن يكون موقفها أكثر وضوحا وقوة في مسألة تقسيم العراق لأن هذا التقسيم لن يأتي بالخير لا على العراقيين ولا على دول المنطقة ولا حتى على أولئك "الحالمين" بالاستقلال وبحكم ذاتي نعرف أنهم لن يحافظوا عليه طويلاً، فلن يلبثوا حتى يتصارعوا، وربما يتقاتلوا فيما بينهم. أخيراً يجب أن نؤكد أن "الكذبة" التي يروجها بعضهم بادعاء أن ما يحدث في العراق سببه طائفي ومذهبي وعلى أساس ذلك بنى الكونجرس الاميركي "موافقته" على تقسيم العراق طائفياً إلى ثلاثة أقسام أو أقاليم سني وشيعي وكردي من أجل تخفيف التوتر والعنف، فهذه الكذبة ليست صحيحة والعنف العراقي– وإن كان في بعض صوره طائفياً- إلا أنه في الحقيقة عنف سياسي، وبالتالي فإن هذا التقسيم لن يخفف العنف أو العمليات الانتحارية والتفجيرات والقتل. وإذا كان الكونجرس الأميركي جاداً في العمل من أجل استقرار العراق وحفظ دماء العراقيين، فيجب أن يقتنع بأن ما يمكن أن يوقف العنف هو خروج الاحتلال الأميركي نهائياً من العراق، وهذا ما لا تريد أن تقتنع به الإدارة الأميركية. وكذلك العراق بحاجة إلى تغيير السياسيين الذين يحكمونه خصوصاً بعد أن اثبتوا فشلهم في حكم العراق وفي الحفاظ عليه وعلى مكتسباته وثرواته، العراق أشد ما يكون بحاجة إلى رجال يحبونه ومستعدين للتضحية بأي شيء من أجل وحدته وعودته قوياً كما كان دائماً. بات واضحاً أن الولايات المتحدة مستعدة لأن تدفع المزيد من المليارات من أجل العراق، فعلى الرغم من أن الحرب في العراق تكلفها نصف مليون دولار في كل دقيقة، إلا أن الولايات المتحدة مستعدة لتدفع أكثر من أجل تأمين مصالحها في العراق والمنطقة. ولكنها يجب أن تدرك أن ما تعتبره "أحياناً" تأميناً لمصلحتها يكون في نفس الوقت ضرراً بالغاً بمصالح دول المنطقة التي "يفترض" أنها صديقة لها... وعليها أن تدرك ذلك، وأن لا تستمر "دائماً" في تجاهل مصالح أصدقائها من أجل مصلحتها!