إذا نحن نظرنا إلى علاقة العقل بالإيمان كما تتحدد في القرآن وجدناها علاقة وظيفية. بمعنى أن وظيفة "العقل المكتسب"، كما حددناه في مقال أمس، هي إنتاج ما يمكن التعبير عنه بـ"المعقول الديني". والآثار أو "المواد" التي تستعمل في بناء هذا المعقول الديني الإسلامي أصناف ثلاثة هي كما ذكرنا قبل: الكون ونظامه، وتاريخ الأنبياء والرسل وقصصه، والقرآن وبيانه. أما "الآخر" الذي به يتحدد هذا المعقول الديني ويتميز، حسب القول المأثور "بضدها تتميز الأشياء"، فهو ما نطلق عليه "اللامعقول العقلي"، وهو الشرك بالله كما كانت قريش تمارسه وتفسره عنه. ومن هنا كان خطاب العقل في القرآن في جملته، خصوصاً قبل فتح مكة، هو خطاب الصراع مع "اللامعقول"، "لامعقول" المشركين الذين يطلبون حضور ما وراء الطبيعة في الطبيعة، فيعبدون الكواكب والأصنام ويقيمون وسائط بين الله والناس يلتمسون منها العون والنجاة... إن القرآن يرفض هذا المنطق من أساسه ويوجه انتباه الناس وجهة أخرى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ" (الإخلاص 1- 4 )، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ" (الحج 73). بهذه الطريقة يجعل القرآن الإيمان بالله من مهام العقل. وقد نَظَّر المعتزلة لهذه الطريقة انطلاقاً من مبدئهم القائل: "العقل قبل ورود السمع". وفحوى هذا المبدأ أن العقل يقضي بوجوب النظر في الكون لمعرفة مبدعه وخالقه وحافظ نظامه، وهو الله. وذلك حتى لو لم يكن هناك نبي أو رسول يدعو إلى ذلك. فإذا أثبتنا وجود الله انتقلنا إلى إثبات النبوة بتوظيف مبدأ آخر من مبادئهم وهو أن العقل يعرف الحَسن من القبيح بما ركَّب فيه الله من قوى. وعلى هذا الأساس قالوا: بما أن إرسال الرسل لهداية الناس إلى طريق الحق وإرشادهم إلى مصالحهم في الدنيا والآخرة شيء حسَن فإن العقل يقضي بأن الله لا يبخل بذلك، لأن الله "لطيف بعباده"، أي يسهل عليهم سبيل الرشاد، وهذا هو مبدأ "اللطف" عندهم. ذلك أنه لما كان من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يحيط به العقل، خصوصاً منها العبادات والشرائع، فإن مهمة الرسل هي بيان هذه للناس. أما ما يقوله براهمة الهند من "أن هؤلاء الرسل إن أتوا بما في العقل ففي العقل كفاية عنهم، وإن أتوا بخلافه فيجب أن يكون قولهم مردوداً عليهم غير مقبول منهم"، فرأي خطأ في نظر المعتزلة: "لأن ما تأتي به الرسل، والحال كما قلنا، لا يكون إلا تفصيل ما تَقَرَّرَ جملتُه في العقل، فقد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل. إلا أننا لما لم يمكنا أن نعلم، عقلاً، أن هذا الفعل مصلحة وذاك مفسدة بعث الله إلينا الرسل ليعرِّفونا ذلك من حال هذه الأفعال، فيكونوا قد جاءوا بتقرير ما قد ركبه الله تعالى في عقولنا وتفصيل ما قد تقرر فيها" (القاضي عبدالجبار). أما أهل السنة والأشاعرة الذين لا يوافقون المعتزلة على مبادئهم المذكورة فهم يثبتون النبوة عموماً، انطلاقاً من قوله تعالى: "قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ (رسل الأقوام المنكرين للنبوة): إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ" (إبراهيم 11). ونظرية "المِنَّة" هذه هي أساس حِجاج أهل السُّنة في إثبات النبوات. يقولون فإذا أثبتنا بالعقل أن للعالم صانعاً وخالقاً وحكيماً، فلنعترف بأنه آمرٌ وناهٍ‏،‏ كالحاكم على خلقه، وله، في جميع ما نأتي ونذرُ ونعمل ونفكر، ‏حكمٌ وأمرٌ‏.‏ وليس كل عقل إنساني على استعداد ليعقل عنه أمره، ولا كل نفس بشري بمثابة من يقبل عنه حكمه، بل "أوجبَتْ مِنَّتُه ترتيباً في العقول والنفوس، لذلك منَّ عليهم بالنبوة، فضلٌ من الله ورحمة، ترشد الناس إلى ما ليس من اختصاص العقل إدراكه، إلى بيان أوامر الله ونواهيه بما فيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة". وواضح أنه في هذا المجال يكاد يكون الفرق بينهم وبين المعتزلة في الألفاظ فقط. غير أنه إذا كان الأشاعرة يوافقون المعتزلة في كون العقل يستطيع بمفرده التوصل إلى معرفة وجود الله وإثبات النبوات، فإنهم ينفصلون عنهم بالقول إن مهمة العقل تنتهي بإثبات النبوة. وقد عبَّر الغزالي عن ذلك بقولته المشهورة : "العقل يدل على صدق النبي، ثم يعزل نفسه". غير أن المقصود هنا ليس العقل مطلقاً، بل العقل الذي يعتمده "المتكلمون" الذين يقتصر دورهم على الدفاع عن العقيدة، والذين يعتمد منهجهم المفضل، أعني "الاستدلال بالشاهد على الغائب" (أو بالمعلوم على المجهول)، وبالتالي فليس من حق هذا العقل ولا من اختصاصه الخوض في تفصيل أمور الآخرة ولا في أنواع ودرجات الحلال والحرام؛ فهذه الأمور من اختصاص الفقهاء والأصوليين، هؤلاء الذين يعتمدون العقل، لا بمعنى "الاستدلال بالشاهد على الغائب"، بل بمعنى "الاجتهاد"، أي استثمار ألفاظ النصوص الشرعية وقياس الفروع على الأصول، كما هو مبين في كتبهم. وإذا نحن أردنا أن نبرز أساس الخلاف بين المعتزلة وأهل السُّنة حنابلة وأشاعرة في المسائل التي ذكرنا أمكن القول إنه خلاف ينبني على قول المعتزلة إن الله الذي خلق العالم قد قصد أن يجعل منه دليلاً على وجوده، وإلا كان خلقه له عبثاً، والله منزه عن العبث، وبالتالي فالنظر في العالم، الذي هو أمارة ودليل، لابد أن يؤدي إلى إثبات المدلول وهو الله. أما الأشاعرة وأهل السُّنة عموماً فهم يقولون إننا لا نعرف كون العالم دليلاً وأمارة على وجود الله إلا من خلال "السمع"، أي أن القرآن هو الذي يأمرنا بذلك. إذا كان الإنسان يستطيع التوصل إلى معرفة وجود الله من خلال النظر في الكون ونظامه فمتى يجب عليه ذلك، أي في أية مرحلة من مراحل عمره؟ قال بعض المتكلمين ومنهم الأشاعرة : إن من ظهرت عليه علامات البلوغ (كالاحتلام للأطفال والمحيض للبنات أو بلوغ نحو سبع عشرة سنة) وجبت عليه معرفة الله عن طريق الاستدلال، وأن على أبويه أو ولي أمره أن يدربه على ذلك. أما غير هؤلاء فيرون أن كل من اعتقد بقلبه بوجود الله اعتقاداً لا يشك فيه وقال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن كل ما جاء به حق فهو مسلم مؤمن. وإنما اشترطت الطائفة الأولى معرفة الله عن طريق الاستدلال منذ سن البلوغ ليكون إيمان المسلم مبنياً على الاقتناع الشخصي المبني على إعمال العقل، وليس على مجرد تقليد الأبناء للآباء، وهو تقليد ذمَّه القرآن في مواضع كثيرة مثل قوله تعالى: ".. قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ" (الزخرف 22)، وقوله: "قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ" (الشعراء 74). تلك كانت الخطوط العالمة لعلاقة الإيمان بالعقل في القرآن مع إشارات إلى مواقف كل من أهل السُّنة والمعتزلة، وهم "المتكلمون" في العقيدة، أي علماء اللاهوت الإسلامي، إن جاز التعبير، مع التأكيد على خلو الإسلام من "الأسرار" التي تختص بالقول فيها فئة خاصة معدة لذلك؟ كل شيء في الإسلام، عقيدة وشريعة، قابل مبدئياً على الأقل، للتبرير العقلي، بما في ذلك الإيمان نفسه. لكن مع هذا الشرط وهو أن يترك العقل النظري (الكلامي) مكانه للعقل العملي (الفقهي- المذهبي)بمجرد ما يثبت النبوة.