لا زلنا نكابد تداعيات الحملة الإعلامية "الاستباقية" الشرسة التي تشنها الفضائيات العربية خلال شهر رمضان، ونواجه قدَرنا المحتوم من مشاهدة المقررات السنوية من المسلسلات التي أشارت إحدى الصحف الخليجية إلى أنها تحتاج إلى أكثر من 66 ساعة يومياً لمشاهدتها أو متابعتها، ولم تتوقف الفضائيات عن الاستمرار في هجومها الحاسم من القصف المدمر للحلقات بلا هوادة، ولا يزال الضحايا من المشاهدين يسقطون كل يوم صرعى التخلف الدرامي، والأمية الثقافية، والموضوعات المملة، والأعمال التي لا تضيف أي جديد. وإذا حاول المشاهد أن يهرب من دراما الواقع التي تشعره بالأسى والحزن على حال العرب في العراق وفلسطين ولبنان والجزائر ودارفور والصومال وأفغانستان، فإنه سيجد نفسه وجهاً لوجه أمام دراما أخرى تصيبه بالإحباط والكآبة على تدهور حال إعلامنا المرئي بعد أن أصابه "عقم الإبداع" في التأليف والإخراج والتمثيل، وبات يحتاج إلى علاج طويل الأجل في "رحم الإعلام" ربما يعيد إليه الأمل في إنجاب "أجنة" من المبدعين. وحتى نخفف بعضاً من وطأة إحباط المشاهدين، ونحد من خسائر الهجمة الشرسة للفضائيات، سنحاول أن نستلهم ما تدل عليه عناوين وموضوعات مسلسلات هذا العام ونسقطها على بعض قضايانا الخليجية، من سياسية واقتصادية واجتماعية، أي القضايا التي تؤثر بشدة على حاضرنا ومستقبلنا، وتفرض علينا سرعة العمل على وضع حل لها، ومن هذه العناوين التي تعبر بصدق عن هذه القضايا نجد الآتي: * مسلسل "للخطايا ثمن" هو عنوان معبر بكل صدق عن حالة التعليم والبحث العلمي في معظم دول الخليج، والتي تدفع ثمنها الدولة قبل التلاميذ والأهالي، فالوضع الراهن يحتاج إلى معجزة إلهية لإصلاح المناهج وأساليب التعليم وتأهيل المعلمين والهيئات الإدارية، ناهيك عن المباني والمساعدات التعليمية، وهذا الأمر يحتاج إلى وقفة جادة لمواجهة حقائق الوضع الراهن، وطرح استراتيجية للتعليم تضمن تحقيق الغاية المنشودة منه، ومن ثم تخصيص ميزانية كافية لتحقيق هذه الاستراتيجية، ويجب التوقف فوراً عن الاستمرار في عبث التجارب والمحاولات المتكررة للإصلاح الجزئي دون طائل، والكف عن الاستعانة بخبراء ومستشارين أجانب لا يدرون أي شيء عن واقع نظام التعليم والمشكلات والتحديات التي تواجهه في دول الخليج. ماذا نفعل إذا علمنا أن إسرائيل هي أكثر دول العالم في الإنفاق السنوي على التعليم لعام 2007، حيث أنفقت 8.3% من ناتجها الإجمالي على التعليم، في حين أن الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم تنفق 7.4% على التعليم، أما متوسط ما تنفقه دول الخليج على التعليم فلا يتعدى 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ناهيك عن تدني مستوى المناهج وضعف القائمين على تنفيذها، وتسرب الذكور من التعليم الأساسي، وعدم تناسب مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، وتحول التعليم الخاص في بعض دول الخليج إلى تجارة، والسعي إلى الثراء على حساب القيم والمبادئ وأخلاقيات العلم. أما عن البحث العلمي فالحديث يحتاج إلى مسلسلات مأساوية تفرض أن يكون رمضان طوال العام وذلك لعقود من الزمن حتى يمكن تغطية قصته. * مسلسل "وجه آخر"، عنوان واضح لظاهرة اجتماعية متفشية في المجتمعات الخليجية يصعب أحياناً الاعتراف بها، وهي زيادة نسبة "العنوسة"، رغم تداعياتها المستقبلية على "الوجود الخليجي" ذاته، فبعد أن ارتفع سن زواج الخليجيات من 18-20 عاماً إلى ما يقرب من الثلاثين عاماً، ازداد الأمر سوءاً، وأضحى نحو 66.8% من الخليجيات من سن 24 إلى 35 عاماً عوانس، وهذا الأمر له تداعيات اجتماعية أمنية خطيرة، ليس أقلها تراجع عدد الأسر المواطنة، ومن أخطرها انقراض نسل أبناء الوطن. ومن هنا تبدو الحاجة الملحة لتدخل الدولة لطرح علاج ناجع لهذه الظاهرة، بدايته الاعتراف بالمشكلة، وتحديد أسبابها، وتضافر جهود كافة المعنيين بها لوضع استراتيجية واقعية تضمن حلها قبل أن تتفاقم، مع التركيز على موضوع التقاليد القبلية التي تمنع زواج الأنثى من خارج القبيلة وتحتكرها "حصرياً" تحت زعم التقاليد، حتى لو تزوج ذكورها من أجانب. * مسلسل "عفريت القرش"، ونقصد به حمى "سوق الأسهم"، فالكل غدا يهرع بكل ما يملك لشراء الأسهم، دون أن تكون له أية دراية بالسوق وطبيعة عمله وأنظمة التداول، ومقاييس العرض والطلب، وكيف أن "هوامير" الأسهم يستطيعون التلاعب بأموال صغار المساهمين، وهذا يذكرنا بقصة مشهورة حول ثلاثة بخلاء كانوا يسيرون بجوار شاطئ البحر، فقرأوا لافتة حمراء مكتوباً عليها "منطقة بها قروش" فقفزوا جميعاً إلى الماء. الأمر يحتاج من المسؤولين وضع التشريعات المنظمة للعمل في أسواق الأسهم من جانب، وضرورة توافر الشفافية في التعامل مع السوق من جانب آخر، وليس هناك أدنى شك في أن قيمة الأسهم ترتفع وتنخفض وفق عوامل كثيرة وهو أمر يجب أن يقبله صاحب السهم سواء من ناحية الخسارة أو المكسب، ولكن من غير المقبول أن تتعدى الخسائر مليارات الدولارات نتيجة سيطرة الهوامير على السوق، وليس ببعيد شهر أغسطس 2007، فالخسائر الهائلة التي أصابت أسواق الأسهم عمت معظم دول الخليج. * مسلسل "الاجتياح" ينطبق عنوانه على "الصرعة" الحالية في التوسع العقاري براً وبحراً في كثير من دول الخليج، وهو أمر من المؤكد أن له مزاياه في مجال التنمية الحضرية، وإنعاش الحياة الاقتصادية، ولكن تبقى المشكلة في عدم الاهتمام بالتداعيات الكارثية، الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، لهذه الصرعة، فمن الناحية الاجتماعية سيزداد الخلل في التركيبة السكانية، لأنها ببساطة تدخل حلقة مفرغة من العمالة الوافدة المطلوبة لسرعة تنفيذ العقارات، ثم الحاجة إلى وافدين ليعمروا هذه العقارات، فنحتاج إلى مساكن جديدة وهكذا، فضلاً عن أن سرعة الإنجاز غالباً ما ترفع أسعار كافة المواد الداخلة في الإعمار، ويترتب على ذلك ارتفاع أسعار السلع الأخرى، لأن الطلب سيزداد عليها مع زيادة السكان، الأمر الذي سيزيد التضخم ويهدد اقتصاد الدولة، ناهيك عن الحاجة إلى زيادة القدرات الأمنية، والتوسع الرأسي حيث يزداد عدد السكان خاصة من الوافدين. * مسلسل "رحلة شقاء"، والمقصود هنا الطلاق الذي تجاوز في بعض الدول الخليجية عام 2006 ما نسبته 49% بين المواطنين، وهو أمر يقود إلى التفكك الأسري، وتشتت الأبناء، ويزيد من نسبة انحراف الشباب، ويضعف الانتماء الوطني، ويوفر البيئة المناسبة لنمو التطرف والعنف، ويفرض على الدولة أعباء مادية ومعنوية للحفاظ على مستوى معيشي مناسب للمطلقات وأبنائهن، بعد أن غابت الدراسات الاجتماعية المتخصصة التي تطرح أبعاد الظاهرة وأساليب علاجها وفق منهج علمي يأخذ في الاعتبار كافة جوانبها المباشرة وغير المباشرة، ولا يتوقف فقط عند أسلوب مواجهة نتائجها. من المؤكد وجود هموم خليجية كثيرة تصلح لأن تكون موضوعات لمسلسلات تليفزيونية وأفلام سينمائية بعضها كوميدي وكثير منها درامي، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى جهد فكري ومواهب إبداعية نفتقر إليها، رغم أنها الطريق الوحيد لعقل وقلب المشاهد، ليس محلياً فقط ولكن على المستوى العالمي، فهل هناك أمل؟ ومبروك عليكم الشهر.