حسم الأزهر الشريف، كما ذكرت صحيفة "الشرق الأوسط يوم 21/9/2007، الجدل الذي أثارته "فتوى إرضاع الكبير" لصاحبها الدكتور عزت عطية رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، "حيث قررت اللجنة التي شكَّلها مجلس التأديب بالجامعة فصل الدكتور عزت عطية من العمل بالجامعة نهائياً وعزله من وظيفته الجامعية". وكانت التحقيقات مع د. عطية قد بدأت مند أربعة أشهر، ثم أصدر "مجلس التأديب" بعدها قراراً "بأن فتوى إرضاع الكبير توجب العزل من الوظيفة مع الاحتفاظ بالمعاش". ولم يشر المجلس فيما يبدو إلى أي مبررات شرعية لاتخاذ هذا الموقف المتشدد من د. عطية رئيس قسم الحديث بالأزهر، فأصل ومسند الفتوى حديث واضح معروف في صحيح مسلم مثلاً، والإشارة إلى قضية إرضاع الكبير متداولة في كتب الفقه. ومن هنا فالدكتور عطية لم يأت ببدعة. وقد أشارت الصحيفة إلى أن مجلس التأديب "استند في قراره إلى عدة أسباب منها "إحداث بلبلة داخل مصر وفي العالم الإسلامي والعربي، بالإضافة إلى المستوى العالمي". وترجع أحداث القضية إلى إصدار د. عزت عطية خلال شهر أبريل الماضي فتوى أباح فيها للمرأة التي تعمل مع رجل غريب عنها في غرفة واحدة لا ثالث لهما فيها، بأن ترضعه حتى لا تصبح الخلوة بينهما حراماً. ووسط الجدل الواسع الذي أثارته الفتوى على صفحات الجرائد وعلى شبكة الإنترنت، أصدر المجلس الأعلى للأزهر بياناً جاء فيه أن ما جاء على لسان د. عطية، "يتنافى مع مبادىء الدين الإسلامي الحنيف ويخالف مبادىء التربية والأخلاق ويسيء إلى الأزهر كمؤسسة إسلامية مرموقة". يقول ز. محمد رواس قلعة جي، من كلية الشريعة بجامعة الكويت، في الجزء الأول من موسوعته الفقهية الصادرة عام 2000.. ما يلي: "إذا كان المقصود من الرضاع التحريم، فلا يشترط فيه أن يكون في الحولين الأولين من عمر الصغير، بل يجوز أن يكون بعد ذلك - فيما أرى - فقد جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم.. وهو حليفه ورُبِّيَ في بيته - فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟! فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: قد علمتُ أنه رجل كبير، وقد كان شهد بدراً". ويشترط د. قلعة جي "اشتداد الحاجة إلى تردد الراضع الكبير على بيت المرضع" و"أن لا يباشر ثديها بالرضاعة بل يشرب لبنها في إناء أو نحوه".. ولا يشير إلى المرأة التي لا حليب في ثديها. ويشير د.، قلعة جي إلى صحيح أبو داود، باب رضاع الكبير، ومسند الإمام أحمد 1-432، وصحيح البخاري في النكاح باب الأكفاء في الدين، وصحيح مسلم في الرضاع باب رضاع الكبير وكذلك إلى مادة "رضاع" في الموسوعة التي أعدها د. قلعة جي في فقه ابن تيمية، والذي يقع في مجلدين. ولا أدري إن كان بعضهم قد أجاز رضاع الكبير في زمننا هذا للخادم والسائق وغيره، وبخاصة مع اضطرار بعض النساء إلى الاعتماد عليهم كل الاعتماد في بعض المجتمعات والبلاد. ويقول صاحب كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" عبدالرحمن الجزيري، 4-ص223، إن "الرضاع معناه في اللغة أنه اسم لمص الثدي، سواء كان مص ثدي آدمية أو ثدي بهيمة أو نحو ذلك، فيقال لغة لمن مص ثدي بقرة أو شاة: إنه رضعها، فإذا حلب لبنها وشربه الصبي فلا يُقال له رضعه، ولا يشترط في المعنى اللغوي أن يكون الرضيع صغيراً". ولا يقر "الجزيري" مؤلف كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، أي أثر لرضاع الكبير، ويعتبر الحديث الوارد في صحيح مسلم منسوخاً أو خاصاً بسالم مولى أبي حذيفة. ولا أريد أن استطرد في هذا المجال، فثمة نصوص وآراء واجتهادات عديدة على الأرجح، ولكن كان الأولى بـ "مجلس التأديب" في الأزهر الشريف ألا يتعامل بهذا الشكل القاسي مع أستاذ حديث حاول الاجتهاد "وللمجتهد" أجر حتى إن أخطأ، كما تنص تعاليم الإسلام. كما أن الآراء متعددة في القضية ولا يزال فيها متسع للمزيد. وكان الأولى بشيوخ الأزهر الأفاضل، وبخاصة أعضاء "لجنة التأديب، وهي لجنة لا يتناسب اسمها مع حقوق وحريات الاجتهاد وواقع الزمان والعصر، أن يتريثوا وأن يعمقوا النظر في التراث والنصوص. فكل من يطالع كتب التراث والنصوص الدينية يدرك الحاجة الماسة إلى أن يهجر المسلمون والفقهاء على وجه الخصوص الأساليب القديمة الموروثة في فهمه، وأن يستوعبوا واقع العصر... في تقييمه! وهذا أقصى ما نستطيع أن نقوله خوفاً من تشكيل "لجنة تأديب" جديدة، ثابتة أو متنقلة، تتولى أمرنا في الكويت ودول مجلس التعاون! بعد يومين من بت الأزهر في شأن د. عطية وعزله، نشرت الصحف أن الشيخ "شمس الدين بوروبي"، أحد أشهر رجال الإفتاء في الجزائر قد كشف بأن إحدى الجزائريات قد شكَتْ له من تهديد زوجها لها بالطلاق إن لم ترضع صديقه! وأن تاجراً استفسر منه عن إمكانية رضاعته من موظفة في محله! وطالب "بوروبي" في لقاء مع صحيفة "الشروق" الجزائرية رجال الدين والسياسة بوقف خطر الفتاوى المستوردة مؤكداً "أن جزائريين ذُبحوا بناء على فتوى، وإني لأتعجب من هذه الفتوى التي تستبيح الأعراض". وقال الشيخ "بوروبي": "هنالك العديد من الحالات التي وصلتنا حول موضوع رضاعة الكبار، والحالة التي حزَّت في نفسي كثيراً كانت لسيدة تبكي وهي تقول إن زوجها السلفي المتدين الملتزم، طلب منها أن ترضع صديقه المتدين، حتى يتمكن من قضاء شهر رمضان في بيتهما والإفطار معهما، وكانت المرأة شديدة الانفعال والتأثر". وأشار الشيخ إلى أن الزوج هددها بالطلاق إن لم تنفذ أمره. كما أشار إلى حالات استفتاء من آخرين من أصحاب المحلات حول المسألة نفسها!(السياسة الكويتية، 23/9/2007). وكان الجدل قد احتدم بين رجال الدين في مصر وغيرها، ووصل إلى البرلمان بعد صدور فتوى د. عزت عطية، وقال عضو مجلس الشعب عن كتلة "الأخوان المسلمين" صبري خلف الله "إن نحو 50 نائباً في البرلمان تدارسوا هذا الموضوع وأعربوا عن قلقهم من انتشار هذه الفتوى إعلامياً". ودافع د. عطية عن موقفه يومذاك "بأن بعض الناس قد نظر إلى إرضاع الكبير نظرة جنسية بحتة، وفاتهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي رفَّض في ذلك، "وأضاف: "إن أحداً من دارسي الحديث وعلمائه لا يمكنه أن يشك في أن حديث إرضاع الكبير حديث ثابت وصحيح". وقد استخدمت السيدة عائشة رخصة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت تأمر بنات أخيها وبنات أخوتها بإرضاع من تحوج الظروف إلى دخوله عليها ليكون محرماً لها من جهة الرضاعة". وأكد د. عطية أنه "لو كان رضاع الكبير فيه أدنى شك لعاتب الله نبيه في تشريعه أو تقريره، ولثار الصحابة جميعاً على عائشة رضي الله عنها لمخالفتها الشرع واستباحتها الخلوة بهذا الرضاع. ومن أرذل الرذائل الاستقباح أو النفور من أمر يسّر الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة به بدعوى المدنية أو بدعوى الحرص على الحرمات أكثر منه.. فالله أدرى بمصالح عباده". لقد نالت فتوى إرضاع الكبير نصيباً وافياً من الهجوم والنقد والاستهجان في مصر وخارجها، وها هو الأزهر يفصل من أفتى بها من العمل بالجامعة ويعزله من وظيفته. ولكن موقف د. عطية لا يزال مستنداً إلى أحاديث واردة في كتب الصحاح وبخاصة صحيح مسلم. وكل المعترضين على الفتوى لا يستخدمون نفس الحجج في مناقشة الفتاوى والنصوص الدينية الأخرى أو الاعتراض عليها! وهكذا، فإن قضية د. عزت عطية ورضاع الكبير، أبعد ما تكون عن الحسم بالقرار الصادر عن "لجنة التأديب بالأزهر".