مهمة شبه مستحيلة في "صندوق النقد"... وما وراء "التصعيد" الفرنسي ضد طهران! ما جدوى صندوق النقد الدولي... وما شرعية استمراره؟ وهل يسعى ساركوزي من وراء التصعيد مع إيران لتعظيم فرص نجاح "وساطة" يزمع تجريبها؟ وهل تكسب الصين، أخيراً، رهان معركة اكتساب العقول والقلوب في الفضاء الفرانكوفوني؟ أسئلة ثلاثة نجيب عليها ضمن جولة سريعة في افتتاحيات الصحف الفرنسية. مهمة "كان"... وجدوى "الصندوق": تناول كُتاب افتتاحيات عدة صحف فرنسية كبرى دلالات تعيين السياسي الفرنسي "دومينيك ستروس كان" على رأس صندوق النقد الدولي، مستعرضين حجم التحديات التي تنتظره، ومشيرين في الوقت نفسه إلى أن الصندوق ذاته دخل الآن مرحلة الأسئلة لجهة جدواه، وفاعليته الاقتصادية الدولية، على حد سواء. ففي افتتاحية لوفيغارو: "صندوق النقد الدولي وورقة د.س.ك" (اختصار اسم دومينيك ستروس كان)، تساءل "نيكولا باريه": "هل ما زال وجود صندوق النقد الدولي ضرورياً؟ وحتى إذا كانت الإجابة نعم، فما هي شرعية هذا الوجود"؟ مشيراً إلى الأصوات التي ارتفعت في السنوات الأخيرة، خاصة في الدول البازغة والنامية، مطالبة بإغلاق "الصندوق" نهائياً لدوره السلبي في الأزمة الاقتصادية الآسيوية 1997، وخاصة لما نسب إليه من دور كارثي تخريبي في الأزمة المالية الأرجنتينية 2001. فقد كانت بصمات و"أعراض" التدخلات القيصرية لخبراء واشنطن التي توجهه هي ما أدى إلى تحديداً إلى تلك الكوارث، كما يقول خصومه. ولا تقتصر اتهامات خصوم الصندوق على اعتباره مرتهن الإرادة وموجهاً، من وراء الستار، من قبل بعض أكثر "أغبياء القرية العالمية" بلاهة، خاصة في الأوساط الأكثر محافظة في صفوف الحزب "الجمهوري" الأميركي، بل تتعدى ذلك إلى اعتباره أيضاً مجرد وسيلة أخرى ضمن وسائل إدامة الهيمنة الاقتصادية للدول العظمى التي أنشأته مع نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصة أنه لا يقيم اعتباراً لكل تلك التغيرات الهائلة التي حصلت منذ ذلك التاريخ على خريطة الجغرافيا السياسية لتوزيع الثروة على مستوى العالم، في ضوء بزوغ دول آسيوية وأميركية لاتينية مؤثرة على الاقتصاد العالمي. ويذهب الكاتب إلى أن دور الصندوق في تطويق الأزمات الاقتصادية الدولية تآكل خلال الفترة الأخيرة نتيجة تجاهله للاختلالات الهيكيلية في الاقتصاد العالمي، وخاصة لتأثير التجاذبات السياسية عليه بقوة. ولذا أصبحت البنوك المركزية هي وحدها من يلعب دور "الإطفائي" في حال اندلاع أزمات على نطاق عالمي. ومن ثم فإن مهمة "د. س. ك" على رأس الصندوق تكاد تكون مستحيلة، خاصة بعد أن انضافت إلى الأسئلة عن شرعيته المفقودة أسئلة أخرى عن ضرورته وجدواه من الأساس. أما افتتاحية صحيفة لوموند "د. س. ك في صندوق النقد الدولي"، فقد ركزت على معنى التقليد الخاص بألا يتولى رئاسة الصندوق سوى أوروبي في مقابل تخصيص رئاسة البنك الدولي للأميركيين حصراً، مشيرة إلى أن ذلك الترتيب يتجاهل الدور المؤثر للدول البازغة كالصين والهند والبرازيل. هذا مع إشارة إلى مخاطر تولي رجل سياسي مثل "كان" لمؤسسة اقتصادية دولية صرفة، وهو "مقلب" ساركوزي مزدوج ضد البنك وعولمة الاقتصاد من جهة، وضد الحزب الاشتراكي الفرنسي المعارض بتغييب أحد "فيلته" ومرشحي رئاسته سيئي الحظ من جهة أخرى. فرنسا/ إيران: بعد "التهديد"... الوساطة: كبير المعلقين الخارجيين في صحيفة لوفيغارو "رينو جيرار" كتب تحليلاً سياسياً بعنوان: "فرنسا ساركوزي... وسيط مثالي في النزاع بين إيران والغرب"، أشار في مستهله إلى أن التصعيد الأخير بين طهران وباريس ترك انطباعاً خداعاً مؤداه أن دور فرنسا كوسيط مع إيران قد انتهى وأنها قد اصطفت بشكل حاسم وراء موقف واشنطن من ملالي إيران. ولكن من يتأمل المضمون البعيد لخطاب الرئيس ساركوزي أمام ملتقى السفراء، وخطابه هذا الأسبوع في الأمم المتحدة، يدرك أن الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو ظاهرياً بكثير. فقد تحدث ساركوزي في نيويورك عما سماه "حق إيران" في اقتناء الطاقة النووية المدنية، كما أعلن رفضه الوقوع في "فخ" الاختيار الصعب بين أسوأ احتمالين: جنوح البرنامج النووي الإيراني، أو قصف المنشآت وتدميرها مع ما قد يثيره ذلك من صراعات غير ضرورية، مشيراً بذلك ضمناً إلى ضرورة اجتراح طريق وسط يرضي جميع الأطراف. وينهي الكاتب مقاله، بعد استطرادات دالة كثيرة، بالإشارة إلى أن الإيرانيين ربما استبقوا أصلاً مساعي ساركوزي على ما يبدو، بإعلان علي لاريجاني، في مقابلة مع لوفيغارو (يوم 26 مايو 2007)، أن فرنسا مؤهلة أكثر من غيرها للعب دور "وسيط موثوق" في النزاع بين طهران والغرب. ولذا فإن ساركوزي يستطيع استثمار تصعيده الأخير ضد الإيرانيين في تسريع استعدادهم لالتقاط طرف خيط وساطته، وجعلها أكثر قابلية للنجاح، وأبلغ تأثيراً في توصيل رسالة الغرب والمجتمع الدولي إلى النظام الإيراني. أما في صحيفة لوموند فقد جاءت افتتاحية بعنوان: "سوق نووية" انتقدت، في سياق ذي صلة، إعلان ساركوزي في خطابه بالأمم المتحدة أن فرنسا مستعدة لمساعدة أية دولة كانت في المجال النووي المدني، وكأنه يريد القول إن من حق أي كان أن يقتني مفاعلاً نووياً خاصاً به. والخطير في هذا الإعلان هو أنه يسير في عكس اتجاه الخروق والشروخ التي يعاني منها أصلً اتفاق حظر الانتشار النووي على مستوى العالم، وقد ثبت بشكل واضح أن المعايير الدولية الموضوعة لعزل البرامج النووية المدنية عن العسكرية باتت غير ملائمة وغير فعالة، ولا تضمن ألا تجتاز أية دولة الخط الأحمر الفاصل بين نوعي الاستخدام، الحميد والخبيث، للطاقة النووية. صوت الصين: تحت هذا العنوان جاءت افتتاحية صحيفة لوموند ليوم الجمعة (أول من أمس) التي خصصتها لإطلاق التنين الصيني الآن لقناتين فضائيتين إحداهما بالفرنسية والأخرى بالإسبانية، ستبدآن البث يوم غد الاثنين تزامناً مع إحياء عيد الصين الوطني. وقد اعتبر كاتب الافتتاحية أن هذا التحدي الإعلامي من قبل الصين لا ينطلق من فراغ، فالعملاق الآسيوي على وشك أن يصبح الآن ثالث قوة اقتصادية في العالم، ويدرك أن صورته غير محببة سياسياً في أماكن كثيرة من العالم، وبالتالي فإنه يريد الدخول على هذا النحو الصاخب والقوي في معركة كسب العقول والقلوب. والتحدي الإعلامي الصيني لا يبدو أنه سيقف عند سقف قريب، تقول لوموند، ففي سنة 2010 سينطلق بث قنوات فضائية صينية أخرى باللغات العربية، والروسية، والبرتغالية. وإضافة إلى التحدي المزعج الذي شكله الصعود الدولي الكاسح للفضائيات العربية خلال السنوات الماضية، والذي تآكل معه تأثير الإعلام الغربي، ها هي الصين تدخل حلبة المنافسة أيضاً، على طريقتها الخاصة، ودون استئذان من أحد. والطريف في الأمر أن القناتين الصينيتين الفرنسية والإسبانية، لا تلتقطان في الصين إلا في فنادق خاصة، وإنما هما موجهتان للعالم الخارجي حصراً. ويبقى السؤال عن موقع الإعلام الفرنسي في خريطة هذه المنافسة الدولية الشرسة؟ فعلى رغم الإنجازات الدولية المتفاوتة لكل من وكالة "فرانس برس" وتلفزيون "تي في 5" وإذاعة "أر. إف. ئي"، إضافة إلى "يورونيوز" و"فرانس 24" و"كانال فرانس"، فإن دور هذا الإعلام ما زال محدوداً وغير مؤهل للمنافسة، خاصة إذا عرفنا أن المرء يمكن أن يصنع أشياء أكبر بكثير بـالـ300 مليون يورو، التي تمثل تمويلات الجهاز الإعلامي الفرنسي. ونتيجة للشجارات والتنافسات السخيفة المعتادة بين أجهزة الإعلام الفرنسية التي تقلص من تأثيرها، ومن فرص انتشارها، فسيكون من المفارقات الطريفة حقاً، إن كتب النجاح لقناة الصين الفضائية الفرنسية، أن تتحول "CCTV-F" إلى الجهاز الإعلامي الفرانكوفوني الأكثر استقطاباً للمشاهدين، عبر العالم! إعداد: حسن ولد المختار