ها هي أيام رمضان تمضي سراعاً، وقد بدأ المتثاقلون يتمنون قرب العيد، بينما العابدون زيّنوا نهارهم بالصيام وأناروا ليلهم بالقيام، وبين هؤلاء وأولئك يترنح الناس ذهاباً وإياباً، كلهم يرجو رحمة الله ويخاف عذابه الذي نسأله تعالى أن يقينا منه، ومع تسارع الخطى في رمضان أود أن أقف معكم على عبادة كادت تندثر، وهي عبادة التفكر؛ فمع الجوع تبدأ النفس في التحرر من براثن الماديات كي تشرق الروح إلى أنوارٍ قليلٍ من البشر من يبصرها، إنها روح الإنسان عندما تشرق عليها أنوار الطاعة بعد تخلصها من قيود المعصية... فما هي عبادة التفكر هذه التي غفلنا عنها. في ختام سورة آل عمران، وتحديداً الآيتين 190 و191 نتلو قوله تعالى: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض...". وفي البخاري عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام لما كان الثلث الأخير من الليل قعد ونظر إلى السماء وقرأ تينك الآيتين، وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبكي قبل أن يأتيه بلال رضي الله عنه لصلاة الصبح، فسأله عن سر البكاء فقال له عليه الصلاة والسلام: "ويحك يا بلال وما يمنعني من البكاء، وقد أنزل الله عليّ الليلة "إن في خلق السموات والأرض... الآيات، ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها". وقد أنكر الله تعالى على أقوام غفلة عقولهم عن التفكر في مواطن كثيرة "وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون". كما قال الداراني إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمةً ولي عبرةً. وعن الحسن البصري أنه قال تفكُّرُ ساعة خير من قيام ليلة، وقد يستغرب البعض من هذه المقولة، لكن ما فائدة الساعات التي يقضيها الإنسان محاولاً قراءة القرآن مثلاً دونما تأمل وتفكر، أو قائماً في الليل وعقله مشغول بأمور كثيرة. ولعلنا نسأل عندها: لِمَ لا تؤثر فينا العبادات وقد فعلت سحْراً في غيرنا، لعلنا هنا ننظر إلى قلوبنا ونسألها: ما الذي يلهيك عن ساعة تأمل في خلق الله تعالى ونعمه التي أحاطت بنا؟ لو فعلها أحدنا مرة لاكتشف سراً جديداً غائباً عن عباداتنا؛ إنها نكهة التفكر التي لو أضيفت لكل شيء لرأينا فيه أموراً جديدة، وقد أحسن بشر الحافي عندما قال: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه. كلام لطيف سردناه من كتاب الله وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام، وما ورد عن بعض من جرّب. ويبقى السؤال: أين نحن من هذه العبادة وكيف نصل إليها؟ أسئلة لها موقعها من الإعراب، ولن أتمكن من الإجابة عن جلها، لكنها دعوة من القلب إلى القلب. دعونا نتأمل فيما نقرأ من كتاب الله ولا يهمنا كم آية تلونا إن لم نتأمل فيها، وقد يستغرب من جرّب كيف أن أحدنا لا يعرف أين توقف أمس في كتاب الله لولا الفاصل الذي وجد في المصحف. لكن لو سألتهم كيف انتهت حلقة أمس من أحد المسلسلات لرأيت الكل يتسابق في الإجابة وكلهم قد حدد الإجابة الصحيحة، عندها نتهم قلوبنا وعقولنا لأننا كنا نتلو كتاب الله بألسنتنا وقلوبُنا في غفلة، نسأل الله تعالى أن يعافينا منها، وكم منا وقف في التراويح والمسجد مزدحم بالمصلين، ولكن تتفاجأ بأن قلة فقط تتابع الإمام كما ينبغي. فقد يخطئ الإمام في آية ولا يرد عليه أحد أو يجلس في موقع الوقوف ويتفاجأ المصلون عندها أنهم كانوا خارج النص. وبعدها؛ هل هذه الصلاة هي ما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ الجواب لدينا جميعاً، فهل من مشمر لهذه العبادة؟