مرّ الخامس والعشرون من شهر سبتمبر، ولم ينتخب مجلس النواب اللبناني رئيساً للجمهورية. تأجلت الجلسة حتى الثالث والعشرين من أكتوبر، والمهلة الدستورية تنتهي في الرابع والعشرين من نوفمبر. الأزمة تراوح مكانها. وإن كانت أبواب الحوار أو التشاور أو البحث عن صيغة تسوية ما حول شخص الرئيس العتيد وبعض الأفكار السياسية التي يمكن اعتمادها في سياق التطلع إلى المستقبل القريب على الأقل الذي يفصل بين استحقاق انتخاب الرئيس الجديد واستحقاق إجراء الانتخابات النيابية في مايو من العام 2009 مروراً باستحقاق تشكيل الحكومة بعد الرئاسة وإعداد بيانها الوزاري، وهي التي من المفترض أن تحول إلى المجلس النيابي مشروع قانون جديد للانتخابات النيابية لتجري الانتخابات على أساسه. الأجواء ملبدة بالغيوم الكثيفة، وفي موازاة الحركة المفتوحة من الاتصالات للوصول إلى ما أشرت إليه، ثمة من لا يزال يؤكد أنه لا انتخابات رئاسية في لبنان. وإذا ما حصلت في ظل موقف عربي ودولي ضاغط على كل القوى الخارجية والداخلية المعنية بالاستحقاق، فإن ذلك سيكون عن طريق عملية قيصرية صعبة، وبالتالي سوف تشهد البلاد أزمات وخضات تفرض هذه العملية وسيكون ثمنها غالياً جداً. وفي موازاة هذا الاحتمال أيضاً، أو في سياق تعزيزه، يتحدث كثيرون عن موجات جديدة من العنف تستهدف شخصياتٍ سياسيةً نيابيةً ووزاريةً ومرجعياتٍ تؤدي إلى الفوضى وتفرض مناخاتٍ معينةً وخطواتٍ وقراراتٍ معينةً. ويرافق هذا الأمر، تصريحات وتسريبات لسياسيين وإعلاميين عن عمليات اغتيال، والبعض ذهب إلى وضع لائحة بأسماء، فيما سربت أسماء المرشحين للاغتيال إلى صحف معينة. وفي الوقت ذاته، يحذر دبلوماسيون من جهات مختلفة السياسيين اللبنانيين من خطر الأيام المقبلة، ومن تفجيرات واغتيالات، ويبدون خشية من العودة إلى استخدام الساحة السياسية اللبنانية ساحة صراع لتصفية حسابات خارجية. وعلى طاولة جلسة مجلس الوزراء الأخيرة معلومات من مسؤولين أمنيين عن عمليات تسلح وتدريب تقوم بها قوى سياسية لبنانية مختلفة بنسبٍ متفاوتة على مستوى الأعداد والتسليح أو اكتفاء البعض بالتدريب فقط ، لكن موجة عارمة من الكلام عن هذا الموضوع اجتاحت البلد، مما اضطر مجلس الوزراء إلى وضع يده عليه والوقوف على المعلومات الدقيقة من الأجهزة الأمنية المعنية. غريب أمر اللبنانيين، فهم يسمعون كل شيء من هذا القبيل، ويرون ترجمة له أمامهم بالاغتيال والقتل والتهديد والوعيد. ويعرفون حقيقة التدريب وهم بطبيعة الحال في معظم مواقعهم شركاء فيه، لأنهم ينتمون إلى اتجاهات سياسية مختلفة. كأننا لم نتعلم مما جرى سابقاً، وكأننا ننساق أحياناً أو نندفع بملء إرادتنا أحياناً أخرى إلى الغرق مجدداً في لعبة الأمم والاقتتال، وهذا أخطر ما يمكن الوقوع فيه. ليس ثمة جهة في العالم تريد مصلحتنا جميعاً أو مصلحة فريق ما على حساب مصالحها. ليس ثمة براءة في هذا الأمر. من يحرض ويدفع في اتجاه الفتنة من الخارج، إنما يرى مصالحه فيها حتى ولو تم تدمير لبنان وتصفية نخبه وقادته، وتم إفراغه من طاقاته وإمكاناته البشرية في مجالات وقطاعات مختلفة. الفتنة، لا خير فيها لأحد. ويخطئ مَن يعتقد مِن اللبنانيين، مهما كانت ظروفه وقناعاته ومبرراته وطموحاته وأهدافه، أنه يمكن أن يحقق منها شيئاً. جرّبَ اللبنانيون الحرب على مدى سنوات من الزمن، استخدموا فيها كل شيء، بلغت الأحقاد حدوداً لا توصف ولا تقاس. وانفجرت على الأرض معارك، واقتتال واغتيالات وتفجيرات وتصفيات. ودخل على خط الخلافات كل أصحاب المصالح وكل أجهزة المخابرات. والنتيجة كانت: خسائر لبنانية فادحة لا تعوض، ثم جلوس حول طاولة حوار ونقاش وتفاهم سياسي. وأذكر تماماً يوم انعقاد مؤتمر الطائف برعاية كريمة من المملكة العربية السعودية، وكنا في أوج الحرب الداخلية في لبنان، ويوم إقرار الاتفاق، كنا فرحين، ليس لأن الاتفاق يوازي ما قدمه اللبنانيون من تضحيات وآلام ومعاناة، وليس لأنه الحل النهائي الذي يضع حداً لكل خلافاتنا آنذاك، بل فرحنا لأنه كان الفرصة التي أتاحت لنا جميعاً الخروج من المحنة، من النفق، من المسلسل الدموي، من العنف والقتل والتدمير والتهجير، وفتحت الأبواب أمامنا مجدداً للقاء وإعادة بناء الثقة بين بعضنا وإعادة بناء البلد. واليوم، ومهما كانت النتائج، سيكون الثمن كبيراً، ولابد من العودة الى الطاولة والحوار والاتفاق السياسي. وأي اتفاق نعقده لن يوازي شيئاً من هذا الثمن الكبير لاسيما عندما نتطلع إلى من خسرناهم، ويمكن أن نخسرهم -وأتمنى أن يكون المسلسل قد توقف- من خيرة أبناء البلد ونخبه، ورجال لا يتكررون، رجال آمنوا بوطنهم وأعطوه كل شيء وكانوا من أبرز صوره، وعندما نتطلع إلى قلق اللبنانيين على حياتهم وحياة أبنائهم ومستقبلهم واستقرارهم وسلامتهم، إلى هجرة عدد كبير منهم، وإلى الانهيار الاقتصادي والمالي. نعم: لن يكون اتفاق بمنطق التسوية التقليدي يوازي شيئاً من هذه التضحيات والآلام والمعاناة. فلماذا لا نذهب إليه بسرعة، فنختصر الوقت والكلفة في آن معاً، ونكون منحازين إلى لبنان أولاً وإلى شعبه؟ ولا أعتقد أننا غير قادرين أو أننا عاجزون عن القيام بذلك، اللهم إذا راجعنا التاريخ اللبناني وتجربة العقود الماضية، وتوقفنا أمام نتائجها ودروسها نعبرها دون مكابرة أو غرور. ليس ثمة رئاسة، وليس ثمة حكومة، وليس ثمة سلطة توازي الثمن الذي تدفعه والمنتظر دفعه في ظل التسريبات والتوقعات والتحليلات إذا لم نصل إلى اتفاق.