ربما لم يعرف تاريخ الفكر السياسيّ موضوعاً استغرق من الاهتمام ما استغرقه الخلاف بين المدافعين عن العنف كأداة للتغيير، وبين المدافعين عن الإصلاح التدرّجي. وقد تكون إيرلندا التي لجأ كاثوليكها إلى السلاح قبل قرون أفضل الأمثلة في هذا المجال. فهناك نقع على براهين لا يرقى إليها الشكّ، متطاولة في الزمن ومتفاوتة في المسائل، على أن ما يستطيع الإصلاح أن ينجزه هو ما لا يستطيعه العنف الذي يؤدّي دوراً معاكساً تماماً. ولنقلْ، بادئ ذي بدء، إن كاثوليك إيرلندا عانوا من الاضطهادات المعروفة على وجه الأرض أطولها عمراً، وإن اضطهادهم كان، في معظم لحظاته، مُركّباً: دينيّاً وطبقيّاً وقوميّاً معاً. فالبدايات الاستيطانيّة الإنجليزية والبروتستانتيّة التي سجّلها العهد الإليزابيثيّ، في القرن السادس عشر، ترافقت مع السيف والإخضاع وحدهما. وشأنُ المُلكيّة، إلى هذا، كان أقلّ تعبيراً عن العدل: فبين 1540 و1640، مثلاً، تغيّرت ملكيّة الأراضي في الجنوب الشرقيّ لما بات يُعرف اليوم بجمهوريّة إيرلندا أيّما تغيّر. فقد حلّ محلّ الملاّكين المحليّين مستوطنون إنجليز واسكوتلنديّون بروتستانت، بينما في "ألستر"، في الشمال، أُوكلت مهمّة الاستيطان إلى مغامرين مارسوها كمشاريع تجاريّة مربحة تُجلي، بالضرورة، السكّان المحليّين الكاثوليك، وتمنح أراضيهم لمستوطنين بروتستانت. وفي الغضون هذه شهد عام 1641 انتفاضة كاثوليكيّة عارمة، حيث انفجر غضب السكّان المحليّين المهجّرين صاخباً وانتشرت أعمال عنفهم ضدّ المستوطنين. والحال أن أكثر من ثلث المستوطنين في "ألستر" الشماليّة تعرّضوا، آنذاك، للقتل بأيدي جيران كاثوليك. وهو ما صلّبهم، على تعدّد فرقهم البروتستانتيّة، في هويّة "بروتستانتيّة" واحدة تعيش حالة حصار متواصل. وتوغّلت عميقاً وبعيداً، في المقابل، حملات الاستيطان مع احتلال أوليفر كرومويل إيرلندا، ابتداء بـ1649، وحملته الضارية، في مناخ الحروب الدينيّة، ضدّ الكاثوليكيّة، مذهبها التقليديّ والشعبيّ. وإذ لم يميّز القائد الإنجليزيّ المُتخم ببروتستانتيّته البيوريتانيّة بين السكّان المحليّين الكاثوليك وبين قدامى الإنجليز الكاثوليك، فإنه صلّبهم جميعاً في هويّة "كاثوليكيّة إيرلنديّة" تعيش، بدورها، حالة اضطهاد. أما سياسته لتوزيع الأراضي، فأتمّت ما بدأ قبله بقدر ما أرست التماهي بين مقاومة الإنجليز والتحارب الأهليّ: فقد أعطى كرومويل البروتستانت معظمها تاركاً الكاثوليك لبؤسهم ولظلم صارخ مضى، مع الزمن، يتعاظم. فهم، بعدما امتلكوا 22 في المئة من الأراضي عام 1690، غدوا يملكون 14 في المئة عام 1703، ثم 5 في المئة فقط في سبعينات القرن الثامن عشر. وسار تدمير الطبقة الكاثوليكيّة المالكة الأرضَ في موازاة إلغاء ما تبقّى من حقوق سياسيّة للكاثوليك. ذاك أنه مع ربط الحقّ في التصويت بحجم الأرض المملوكة، انخفض باطراد عدد الكاثوليك الذين يحرزون الحقّ هذا، إلى أن انعدم تماماً في 1728. وجاءت الانتفاضة الثانية في 1789، بقيادة البطل الأسطوريّ للوطنيّة الإيرلنديّة "ثيوبالد ولف تون"، وبدعم مباشر من فرنسا الثوريّة يومذاك. لكن الانتفاضة تلك انطوت أيضاً على مذبحة نزلت بالبروتستانت في "ويكسفورد"، في الجنوب الشرقيّ، نجم عنها إحراق مئة سجين منهم أحياءً، مقنعةً أبناء مذهبهم بأن أفكار الوحدة خديعة لا تؤول إلاّ إلى دمار ذاتيّ. فالانتفاضة تطيَّفت، ولئن ظلّ في وسع القادة المضيّ في تبشيرهم بقوميّة مستمدّة من التنوير والثورة الفرنسيّة، فقد غدا زخم الفعل الثوريّ تحويراً للحقد المديد على البروتستانت بسائر طبقاتهم. فالمتمرّدون الذين هاجموا الملكيّات كلّها من غير تمييز، تعبيراً عن حرمانهم منها وحقدهم عليها، اقتصر إحراقهم البيوت على منازل بروتستانتيّة فحسب. على أنه بعد دمار الانتفاضة، وفرض حكومة لندن "الاتّحاد الأنجلو إيرلنديّ"، ملغيةً الحكم الذاتيّ القائم، لم يعد للمسحوقين الكاثوليك من قيادة سوى الأكليروس، وهؤلاء كان معظمهم متحفّظاً عن النشاط الثوريّ للبعض من أبناء مذهبهم. والحال أن هذا الخطّ المعارض للعنف السياسيّ إنّما بدأت الكنيسة تشقّه عام 1798، حال انهزام الانتفاضة، واجدةً صوتها السياسيّ في دانيال أوكّونيل، المحامي والأريستوقراطيّ الذي دافع عن التسامح وانتقل من موقع راديكاليّ إلى معارضة المنتفضين. وهو انتقال كان مردُّه، في نظره، عدم توافر الاستعداد والتنوّر المطلوبين لدى الإيرلنديّين. وبالفعل نجح أوكّونيل، مدعوماً من الكنيسة، في قيادة حركة ضغط آلت، عام 1829، إلى إتاحة المجال للكاثوليك كي يحظوا بعضويّة مجلس العموم البريطانيّ، كما بات في وسعهم تولّي بعض المناصب الحكوميّة، وفي الوقت نفسه ارتفع احتساب الحقوق تبعاً للمُلكيّة خمسة أضعاف ما كانه. بيد أن هذا لم يعصم إيرلندا من شنّ انتفاضة أخرى، عام 1848، وهو عام الثورات الأوروبيّة بامتياز. وهذه، بدورها، كانت بلا أفق أو أمل. لكن انتفاضة 1848 عملت أيضاً على إدخال الحركة الجمهوريّة، شأنها شأن مثيلات كثيرات في أوروبا، طوراً جديداً مادّته النشاط السريّ، الطقسيّ والتآمريّ. وهو ما عبّرت عنه "الأخويّة الجمهوريّة الإيرلنديّة" التي تأسّست في 1858 والتي رعت التصوّر القائل، والمنسجم مع الأفكار الفوضويّة الأوروبيّة عهدذاك، إن في وسع مجموعة سرّيّة ونخبويّة، أن تقيم، بإراديّة الشجاعة والصمود، جمهوريّة إيرلندا المستقلّة. وعلى هديها ومجدداً شهد التاريخ الإيرلندي انتفاضة أخرى في 1867 انتهت إلى ما انتهت إليه سابقاتها. لكن النشاط الانتفاضيّ رتّب دفع التطهير الطائفيّ بعيداً داخل "الشعب" المفترض واحداً. فما بين 1861 و1936، تدنّى وجود البروتستانت في جنوب إيرلندا بنسبة الثلثين، تاركاً للاختلاط والاشتراك مساحات ضيّقة وعرضة للاختناق. لكن ما كان يحصل على جبهة الانجازات تولاّه الإصلاحيّون، لا الثوّار. فقد باشر السياسيّون الليبراليّون والوطنيّون الدستوريّون الكاثوليك نشاطاً دؤوباً ومتّصلاً للحصول، عبر العمل البرلمانيّ، على حكم ذاتيّ موسّع. وكان ما تعنيه تلك الاستراتيجيّة السيطرةَ على توازنات الكتل البرلمانيّة من خلال التحالف مع حزب بريطانيّ هو الحزب الليبراليّ. وفعلاً نجح هؤلاء، في 1912، في ضمان أكثريّة مؤيّدة لمطالبهم، واستصدار "مرسوم الحكم المحليّ"، مدلّلين على أن الانخراط في اللعبة السياسيّة، لا الانتفاض، هو ما أتاح للنوّاب الإيرلنديّين أن يمسكوا بالتوازن ويكونوا الأقليّة المقرّرة في مجلس العموم البريطانيّ. أما المناضلون الراديكاليّون فاختاروا، مرّة أخرى، ما عُرف بانتفاضة عيد الفصح عام 1916. آنذاك تأكّد، بعد إعدام قادة الانتفاضة، أن لندن ليست في وارد إعطاء إيرلندا حكماً ذاتيّاً فعليّاً، فيما الحرب العالميّة الأولى تستنفر أوروبا كلّها عسكريّاً وأمنيّاً. ولئن أثار القمع البريطانيّ المتطاول غضباً ونفوراً باديين، إلا أن طبقة أخرى من طبيعة عقلانيّة كمنت تحت سطح الغضب، مفادها الاستعداد للتسوية اتّعاظاً بالهزيمة وتأثراً بمناخها. فانتفاضة 1916 إنما نفّذتها أقليّة ضئيلة، لم تكن ديمقراطيّة ولم تستشر السكّان الكاثوليك في أمر يخصّ حياتهم ومصيرهم. فحين بدأ "الجيش الجمهوريّ" عام 1919، شنّ حرب عصابات ردّاً على هزيمته ونتائجها السياسيّة، بدت عمليّاته عرضة لإدانات متكرّرة من قبل السلطات المحليّة ورجال الدين، فيما لم يحرز الجيش المذكور دعماً شعبياً واسعاً. ذاك أن تأييده، في أي وقت من الأوقات، لم يتجاوز الـ5 في المئة من الكاثوليك أنفسهم. ومستفيدةً من الضربة التي وجّهتها للقوميّين الإيرلنديّين، مصحوبةً بعودة الكنيسة إلى الواجهة مجدّداً، وقّعت لندن، في 1921، معاهدة مع القوميّين تقضي بالحكم الذاتيّ للمنطقة الكاثوليكيّة المتجانسة من إيرلندا، على أن يبقى الجزء البروتستانتيّ (وبعض مناطق كاثوليكيّة ملحقة به) ضمن المملكة المتّحدة، وهو ما لا تزال عليه الحال الآن. ومجدّداً أبدت الكثرة الكاثوليكيّة الاستعداد للاعتدال. فعبر صناديق الاقتراع تمّ التصديق الشعبيّ على المعاهدة، وهو ما رفضه التيّار الراديكاليّ بزعامة "إيامون دي فاليرا"، أحد قادة انتفاضة 1916، مُصرّاً على إسقاطها بقوّة السلاح. لكن الكنيسة الكاثوليكيّة، من ناحيتها، بلغ تأييدها للمعاهدة أن عاقبت معارضة "دي فاليرا" بفرض الحِرْم الشامل عليها، فيما القوّات التي تؤيّد المعاهدة تسحق المعارضة الراديكاليّة عسكريّاً. لقد أدّى قيام الجمهوريّة إلى انتصار مبدأ الاستقلال في نظر الواقعيّين القابلين بالتسوية مع الوجود البروتستانتيّ في الشمال، إلاّ أنه انطوى، في نظر القوميّين الراديكاليّين، على تقسيم لإيرلندا التاريخيّة التي جُزّئت إلى دولة مستقلّة وكاثوليكيّة تضمّ 26 مقاطعة ومنطقة بريطانيّة من ستّ مقاطعات يتولّى بروتستانت إدارة حكمها الذاتيّ. وهو، عندهم، ما أضاف مطلب الوحدة إلى مطلب الاستقلال ضمن حزمة معتقديّة- مطلبيّة واحدة. بيد أن الاحتقان القوميّ الذي عبّرت عنه المقاومة باتت قاعدته المفترضة تقتصر، مع قيام الجمهوريّة في الجنوب عام 1929، على أقلّ من نصف سكان إيرلندا الشماليّة (بلفاست) الكاثوليك، بعدما كان محيطها، الافتراضيّ أيضاً، يشمل أكثريّة كاثوليكيّة كبرى في عموم إيرلندا. وفي المعنى هذا، فإن أكثر من نصف سكان إيرلندا الشماليّة، أي البروتستانت، بدوا الهدف المباشر لتلك المقاومة الاستقلاليّة، جنباً إلى جنب الجنود البريطانيّين. وفي حربه على الجمهوريّة الوليدة وحكومتها المؤقّتة في دبلن، استخدم "دي فاليرا" كلّ ترسانة الأيديولوجيا الجمهوريّة وكل الزخم العاطفيّ والشعبويّ للنضال القوميّ ضدّ لندن، كما اغتيل رفيقه وتلميذه السابق "مايكل كولينز" الذي بات الراديكاليّون يتّهمونه بالخيانة والتفريط لتسنُّمه رئاسة تلك الحكومة بعد مشاركته في المفاوضات التي أنتجت المعاهدة. لكنْ بعد عقد، أي في 1931 تحديداً، وإذ بلغ العنف مجدّداً طريقاً مسدوداً، وافق "دي فاليرا" نفسه على مضمون المعاهدة، وإن تحفّظ عن الشكل، مصرّاً على تمثيله تقليد 1916 الثوريّ. هكذا اقترن التشديد على الانتفاضة، بوصفها الروح الإيديولوجيّة لجمهوريّة الجنوب، بتسوية واقعيّة مع بريطانيا ممزوجة بإرساء نظام برلمانيّ يتمّ استكماله تدريجاً فيما يكون مصدر الشرعيّة الفعليّة ومرتكزها. هكذا نشأت جمهوريّة في الجنوب تحوّلت، بعد عقود قليلة، قصّة نجاح باهر في الاقتصاد كما في إرساء نظام ديمقراطيّ. أما الشمال فعاش عشرات السنين اللاحقة أسير عنف أعمى طلباً لهدف لا يمكن بلوغه.