كان من المفترض أن يكون شهر سبتمبر الحالي موعداً حاسماً بالنسبة لسياسات بوش الحربية في العراق. وكان مفترضاً أن يتسم تقرير التقدم في مدى أداء الحكومة العراقية وفق المعايير المحددة لها، أن يتسم بالنزاهة وأن يعكس صورة واقعية عن سياسات الحرب بمجملها. وبالقدر نفسه كان يفترض أن يشير التقرير المقدم عن الأداء العسكري، لاسيما حول مدى نجاح أو فشل خطة زيادة عدد القوات، بوضوح إلى النتائج التي أسفرت عنها هذه الاستراتيجية كما هي. وإيجازاً فإنه كان من المفترض أن يكون هذا الشهر لحظة تكشف فيها إدارة بوش عن حقيقة الحرب كما هي، أمام الكونجرس والشعب الأميركي عامة. لكن وبدلاً من ذلك، فقد سمعنا ذات اللف والدوران والإصرار على إيهام الذات وذلك العناد المستمر على ليِّ عنق الحقيقة والتحايل عليها بشتى الطرق. وبالنتيجة فقد حاول كل من رايان كروكر سفير بوش في العراق، وزميله الجنرال ديفيد بترايوس قائد عام القوات الأميركية هناك، إقناع الكونجرس والرأي العام الأميركي بأن استراتيجية بوش القائمة على تصعيد معدلات العنف هناك قد أثمرت وآتت أكلها! غير أنهما فشلا على أية حال، في الإشارة إلى أن انخفاض معدلات العنف في أنحاء معينة من العراق خلال الفترة الأخيرة الماضية، إنما يعود في جزء كبير منه إلى التغيرات الديموغرافية الكبيرة التي حدثت في العراق، نتيجة لتصعيد الإدارة نفسها لموجة العنف في وقت مبكر من العام الحالي. فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها بتاريخ 17 من شهر سبتمبر الجاري، أن العراقيين طالما واصلوا الهرب من بيوتهم وأحيائهم على امتداد تزايد نشر الجنود الأميركيين في المناطق التي يقيمون فيها في مطلع هذا العام. وعلى رغم التأكيدات الصادرة بأن هذه المناطق قد أصبحت آمنة وأنه يمكن لساكنيها العودة إليها، إلا أن هناك خطوطاً حمراء لا يمكن تخطيها، ظلت تراوح مكانها في عقول العراقيين بشأن التواجد في مناطق النزاعات ومواجهات العنف هذه. أما المنظمة الدولية للهجرة فقالت في تقرير حديث لها إن 86 في المئة من الفارين العراقيين ذكروا أنهم أرغموا على الهرب من بيوتهم وديارهم بسبب انتمائهم الطائفي. وإلى ذلك أشارت بيانات أخرى جمعها الهلال الأحمر العراقي ومنظمة الهجرة الدولية بينما نشرت تقريراً عنها صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 19 من الشهر الحالي، إلى التنامي الملحوظ في أعداد النازحين العراقيين داخلياً، منذ بدء تطبيق استراتيجية زيادة عدد القوات. وفي الاتجاه الآخر، فقد ذهبت مزاعم متضاربة صادرة عن البيت الأبيض والبنتاجون وكذلك عن لجنة المساءلة الحكومية، إلى أن عدد الهجمات اليومية التي تستهدف المدنيين العراقيين قد ظل كما هو تقريباً منذ شهر فبراير المنصرم، وهو تاريخ بدء تنفيذ سياسة تصعيد الحل العنيف هذه من قبل إدارة بوش باسم الاستراتيجية الأمنية الجديدة. ومن جانبه أصر مكتب المساءلة الحكومية -على رغم الاعتراضات القوية التي أبداها البيت الأبيض- على أن الحكومة العراقية قد أخفقت في الإيفاء بخمسة عشر بنداً من بنود التقدم في الأداء، البالغ عددها 18 بنداً، التي حددها لها الكونجرس قبل البدء في تنفيذ استراتيجية بوش الأخيرة المشار إليها آنفاً. وفي مسعى مستميت منه لإبراز أي صورة إيجابية ممكنة عن الوضع الميداني في العراق، أطرى الرئيس بوش وجنرالاته إلى حد بعيد شخصية الشيخ العراقي عبدالستار أبو ريشة زعيم محافظة الأنبار، باعتبار أن تعاونه مع القوات الأميركية في محاربة مقاتلي تنظيم القاعدة يعد مثالاً لما يمكن أن يحدث في بقية المحافظات العراقية الأخرى. وبينما التقى بوش شخصياً بالشيخ أبو ريشة، فقد سارع الجنرال ديفيد بترايوس إلى الثناء عليه أمام الكونجرس. وبالحرف الواحد قال بترايوس أمام الكونجرس: "إن محافظة الأنبار تقف دليلاً ناصعاً على ما يمكن أن يحدث بالفعل، حين يقرر القادة والمواطنون المحليون محاربة تنظيم القاعدة ويرفضون أيديولوجيته الطالبانية". ولكن الذي حدث هو أن المتمردين اغتالوا "أبو ريشة"، باعثين بذلك الاغتيال رسالة مريرة وأكثر واقعية عن دموية المشهد العراقي التي لا تريد أن تقرها إدارة بوش وجنرالاتها العسكريون. لكن وعلى رغم ذلك فلا يزال بوش على إصراره بأنه إنما يقاتل فلول تنظيم "القاعدة" في حربه العراقية هذه، وأنه يواصل إلحاق الهزيمة بالخطر الإرهابي الصادر عنهم إلى بلاده. ومما لا يزال يدعيه بوش أنه لولا حربه المستمرة على الإرهاب هذه، لبلغ حد هذا الخطر مدى لا يمكن تصوره أبداً. بيد أن تقرير "التقديرات الاستخباراتية" وهو التقرير الرسمي الحكومي الصادر في العام الماضي تحت عنوان "اتجاهات الإرهاب الدولي: التداعيات على الولايات المتحدة الأميركية" أشار بكل وضوح إلى أن "حرب العراق –وبعيداً كل البعد عن أن تساعد في الحد من المخاطر الإرهابية- قد أضحت هدفاً حافزاً لنشاط الجهاديين، وأنها بدأت في إعداد جيل جديد منهم ومن عملياتهم المستقبلية". وفي الاتجاه نفسه أشارت دراسة حديثة في صدرت مؤخراً في مجلة "موذور جونز" إلى أن الحرب العراقية نفسها قد أسفرت عن زيادة مروِّعة في معدل الهجمات القاتلة السنوية التي يشنها الجهاديون، بلغت سبعة أمثال ما كانت عليه من قبل، مع العلم بأنها تعادل حرفياً مئات الهجمات التي تزهق أرواح الآلاف من المدنيين سنوياً. ولعل هذه الحقيقة هي التي منعت الجنرال بترايوس من الاعتراف في شهادته أمام الكونجرس بالمزاعم القائلة إن الحرب على العراق قد حدّت من معدلات الخطر الإرهابي على الولايات المتحدة. وهكذا تبقى هذه الحرب مجرد نسخة جديدة لذات أطماع الهيمنة الإمبريالية الأميركية على المنطقة، وهي أطماع لا صلة لها البتة بأي تحول ديمقراطي أو إصلاح سياسي فيها كما تزعم إدارة بوش.