مثلما تأتينا شمس الصباح من الشرق كل يوم، ثابت الدور الإعماري الذي لعبه ويلعبه أبناء المهجر والشتات الفلسطيني في تأسيس وتنمية دول عربية عديدة، خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي وبلاد الشام. ومثلما تغادرنا شمس المساء من الغرب كل يوم، ثابت –للأسف الشديد والحزن المديد- الدور التدميري الذي لعبناه ونلعبه، نحن معشر السلطة الفلسطينية (بل ومنظمة التحرير ومجموع الحركات والفصائل الفلسطينية بما فيها الإسلامية) في تفتيت و"تنمية" تخلف السلطة/الدولة الفلسطينية! غير أن في أعماقنا كامل اليقين بانبلاج فجر جديد يحفظ ما تبقى لدينا من تفاؤل وأمل... ذلك أن لكل ليل نهاية. ومن واقع التحرك في "مؤسسة فلسطين الدولية" التي لي شرف رئاستها التنفيذية، يأخذك عملك إلى بلدان المنفى والمغترب الفلسطيني (والعربي)، فترى – في الأغلب الأعم- جاليات فلسطينية (وعربية) ترفع معنوياتك وتعزز ثقتك، فأينما يمّمت وجهك، ترى مشاهد الإعمار الذي تلده جهود العقول والسواعد الفلسطينية (والعربية) المقيمة في بلدان مجلس التعاون الخليجي وفي دول شمال أفريقيا وأوروبا، وبالذات في القارتين الأميركيتين. وها أنذا اليوم أكتب تحت تأثير ما شاهدته عيناي في أرض الكنانة. وما أنا بصدده اليوم يجب أن يرى في سياقه، أي كونه جهداً مباركاً ينتظم ضمن جهود سابقة... ولاحقة لكثيرين وليس جهداً يتيماً لمبادر واحد! وصاحبنا اليوم مثال يحتذى وإن سبقه آخرون وسيلحق به عديدون. فأثناء وجودي مؤخراً في القاهرة لحضور اجتماع مجلس أمناء "منتدى الفكر العربي"، حظيت برحلة إلى محافظة السويس حيث يشاد (فوق رمال بدت صحراء ممتدة خفف من قسوتها ماء البحر الأحمر) صرح صناعي تنهض فيه مشاريع كبرى متعددة التخصصات وفق أحدث ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا. وقوام هذا الصرح "ميناء السخنة" الذي لا نظير له كونه يؤسس من الصفر، في منطقة لا حواجز أو عوائق فيها تعيق تحدي الإبداع. وهو إبداع استفاد من خبرات تطور علم بناء الموانئ المتميزة في عالمنا المعاصر. ومما يراكم الإعجاب فوق الإعجاب، إصرار صاحب المشروع الشامل هذا (رجل الأعمال "الكابتن" أسامة الشريف) على نشر مزارع نبتة (جيروتروفا) على امتداد أرض الكنانة بهدف توليد مصادر بديلة للطاقة تعمل في الوقت ذاته – تصوروا- على تنقية البيئة وذلك بعكس ما يفعله طويل العمر الرئيس الأميركي بوش! وهذا "الأسامة" أعجبه تعبير "الأردسطيني" فبات يفضل أن ينعت به. إنه –حقاً- تجسيد للمغترب/المنفي عن فلسطين الذي اختار إفراغ علمه وجهده مسهماً في عملية البناء في بلد عربي شقيق فاستحق لقب "أسامة التعميري"، في مقابل "أسامة التدميري" الذي جاء على البال مع تصادف زيارتي إلى "ميناء السخنة" مع الذكرى السادسة لأحداث 11 سبتمبر الدموية! هذا الفعل الإعماري البناء الذي أنجزه – وينجزه- أهلنا في الشتات والمنفى، المهجر والمغترب، لماذا عجزنا نحن عن الإتيان بمثله في فلسطين حين دخلناها بهدف تأسيس دولتنا؟! طبعاً، لا أنكر دور الاحتلال الإسرائيلي في إفشال التجربة، لكن لا يجوز لنا أن نجعل منه "الشماعة" التي نعلق عليها أخطاءنا بل –أحياناً- خطايانا! والدليل الساطع في هذا المقام أن أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة قد نجحوا، حتى في ظل الاحتلال إياه، بإقامة مؤسسات كبرى في المجالات الثلاثة: التعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية! أو تذكرون كيف كان إسرائيليون (وأجانب) كثيرون يتباهون فيشيرون إلى ذلك –على نحو ظالم- بعبارة الاحتلال الإزدهاري"!. وهنا، لا أريد التحدث عن الدور السلبي، بل القاتل، الذي لعبه الفساد المالي والإداري والسياسي في تجربتنا (نحن قادة وكوادر منظمة التحرير) حيث لا حاجة لتوضيح ما هو واضح أو لإثبات ما هو ثابت! غير أنني أرغب في تسليط الضوء على جانب إضافي واحد: تسييس الإعمار (إن جازت العبارة)! فهل مطلوب من الرئيس ومكتبه والحزب الحاكم (أقصد حركة فتح في المرحلة الأولى) أن يصبحوا بديلاً لرجال المال والمهنيين ورجال الأعمال والأكاديميين الذين يجب أن يكونوا من المتميزين وبخاصة من أبناء الجيل الشاب المتعلم تعليماً راقياً، وطبعاً من الوطنيين الشرفاء؟! وهل المناضل الذي يتقن الأداء في "عالمه" (عالم التحرر الوطني) يتقن بالضرورة الأداء في بناء الدولة؟! طبعاً نحن لا ننكر فضل المناضلين في مرحلة التحرر الوطني. لكن هل تكريس فضلهم يتأتى فقط من خلال ترئيسهم وسيطرتهم على مفاصل المجتمع والاقتصاد في مرحلة بناء الدولة؟! كما لا نطلب من هؤلاء المناضلين والسياسيين "التقاعد" أو ترئيس "التكنوقراط" (علاوة على قادة "المجتمع المدني") وجعل هؤلاء جميعاً "الورثة" الجدد للمناضلين القدامى! فهؤلاء الأخيرون يجب أن يبقوا "القيادة السياسية" القائدة والمشرفة على إتمام إنجاز حلم البناء الوطني على درب إقامة الدولة العصرية المستقلة، لكن من دون أن "يغطسوا" في ما لا يتقنون. فالخبز يجب أن يعطى لخبازه، مع الاعتراف بأن "الخباز" ليس بالضرورة هو "مالك" المخبز! وللحقيقة والتاريخ، لم يقتصر أمر "سوء قيادة عملية بناء المجتمع والدولة" على حركة "فتح" (وفصائل منظمة التحرير). فحين جاءت حركة "حماس" إلى الحكم على قاعدة بيان انتخابي قوامه "الإصلاح والتغيير"، جاءت معها أيضاً الفجيعة التي أذبلت ورد آمالنا حين وجدنا عندها الجوع ذاته لتولي السلطة، والسيطرة المباشرة عليها، وفقط من قبل قياداتهم! وهؤلاء الأخيرون قد يكونون خير الناس في النضال وفي الخدمة الاجتماعية وفي ممارسة الشعائر الدينية، لكن الدولة لا تدار أو تبنى من الخندق، أو من الجمعية الخيرية، أو من الجامع! فلماذا هم أيضاً (أقصد الحمساويين في المرحلة الثانية) لم يشكلوا حكومة من "الخبازين" (تكنوقراط ومجتمع مدني) يعرفون شؤون الخبز والمخبز، وطبعاً تحت إشرافهم وبقيادتهم؟! ولماذا لم يستفيدوا من خبرات الأهل في الضفة والقطاع وفي الشتات والمغترب، هؤلاء الذين ثبت أن لهم باعا طويلا في الإعمار والبناء... بناء المؤسسات والدول؟! هذا طبعاً مع الاحتفاظ بحق هؤلاء القادة (المستند إلى خيار الشعب) بأن يكونوا القيادة السياسية الفعلية للحكومة. مؤسف، بل مؤلم، إذ انتهى الجهد الفلسطيني النضالي التحرري الطويل –لا قدر الله- إلى تفتيت الكيان السياسي قبل أن يصبح دولة! وتقسيم المجتمع السياسي، بل تفتيته، إلى "ضفة" و"قطاع"، "مخيم" و"مدينة"، "قبيلة" و"عشيرة"... في ظل "غابة من السلاح". ومن المعلوم أن "الغابة" الراهنة هي، هذه المرة، غابة سياسية حقيقية تسودها أخلاق وحوش تتناحر على فتات سلطة محتلة قد لا تتحول إلى دولة، بل هي لن تتحول إلى دولة حقيقية إن استمر هذا المفجع المؤلم الذي يجري.