في عزلته التأملية الشهيرة عن العالم، دون الكاتب الأميركي ثورو عبارته الشهيرة "إن الأشياء لا تتغيّر وإنما نحن الذين نتغيّر"، وهذا ما يصدق على وزير خارجية فرنسا. فهذا الرجل قد خرج في المظاهرات الطلابية الفرنسية عام 1968، وهو يهتف بسقوط الأنظمة الظالمة ومطالباً بالمساواة بين البشر والشعوب. وبعد بضع سنين ساهم بحيوية الإنساني المثالي في تكوين جماعة "أطباء بلا حدود" التي تجوب بقاع العالم لتداوي ضحايا الحروب والنزاعات والنكبات... فهل تغيًّرت الأشياء حتى تتغيّر ثوابت الوزير ونزعات جوارحه من أجل العدل والحرية والرحمة؟ إذا كان النظام السياسي في فرنسا عام 1968 ظالماً ومستبداً، كما هتف هو ورفاق له آنذاك، فهل النظام الذي يحكم العالم بأسره اليوم أصبح أكثر عدالة وأقلًّ وحشية؟ هل أصبحت أنياب الحكم اليميني الأصولي المتطرف في واشنطن أصغر وأقلّ قدرة على العضّ والتمزيق من أنياب حكومة شارل ديجول أيام شباب الوزير الفرنسي؟ وهل آلام وأوجاع الملايين من ضحايا سطوة الاحتلال الأميركي للعراق، وملايين ضحايا استباحة الأرض الفلسطينية ومن عليها من قبل الاحتلال الصهيوني، والملايين أيضاً من ضحايا النزاعات التي تؤجّجها قوى بالغة القسوة في كل مكان... هل تلك الآلام والأوجاع أقل من آلام البشر عندما تكوّنت جماعة "أطباء بلا حدود"؟ إذن ما الذي تغيُّر في هذا العالم حتى يغيّر وزير خارجية فرنسا أفكاره ومبادئه وثوابته؟ الجواب هو: لاشيء، فالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الظالم المجنون لم يتغيًّر، بل ازداد سوءاً وتيهاًَ وخطراً. الأشياء لم تتغيُّر وإنما الرجل إيًّاه قد تغيًّر. وها هو منذ أسبوعين يحمل السّيف الأميركي في يده ملوحاً به، لا في وجه القوى الدولية التي تمارس احتلال بلدان العالم ونهب ثرواتها، وإنما يلوّح به في وجه إيران المسلمة، ويعدها بشن الحرب إن لم تنصع للإرادة الدولية (الدولية أم الأميركية؟). انقلب الشاب الثوري المفعم برغبة تغيير العالم، والرجل الإنساني المملوء حناناً ورقة، إلى أداة حرب استعمارية يعرف هو قبل غيره الأهداف الأميركية الصهيونية الخفية من وراء التلويح بها، ويعرف بوضوح الأهوال التي ستأتي بها تلك الحرب على الشعب الإيراني وعلى شعوب منطقة الخليج العربية، وعلى العالم كله. بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع بعض السياسات الإيرانية في منطقتنا، وبعيداً عن الجانب السياسي في تصريحات وزير خارجية فرنسا، فالذي يهمنا هو ظاهرة تغير البشر. التغير ليس عيباً، بل إن الكاتب الألماني وولف بيرمان يصر على أن "الذي يتغيُّر هو وحده الذي يبقى أميناً مع نفسه". والواقع أن الإنسان يستطيع أن يجد مبرراً لمن يغيّرون أفكارهم تغييراً جذرياً بسبب تغيُّر الأحوال في محيطهم وبالتالي انتقالهم لتبنّي قناعات جديدة تستوجب الانقلاب على ماضيهم. لكن أن ينقلب الفرد على ثوابت أخلاقية وإنسانية كانت تحكم حياته ويتبنى نقيضها، فهذا أمر لا يندرج إلا تحت ممارسة الانتهازية وبيع الذات أو الانخراط في لعبة النفاق المذمومة. هؤلاء ينطبق عليهم قول القائل: "يضعون في سلّة الفقراء فلساً بيد ليأخذوا باليد الأخرى ديناراً". وزير خارجية فرنسا ليس الوحيد الذي يفعل ذلك، إذ هناك الألوف المؤلفة من مفكري ومثقفي وسياسيّي العرب الذين فعلوا ويفعلون مثله. لقد كانوا مناضلين ومحاربين في سبيل الحرية والعدالة واجتثاث العفونة من عالمهم. واليوم يقفون مع الاستعمار والاحتلال والظلم وغول العولمة بانتهازية قل مثيلها. كل هؤلاء وأمثالهم أعطوا فيما مضى لأممهم وللبشرية القليل من نقاء ضميرهم ليعودوا اليوم فيساهموا في عملية نهب وسفك دم تلك الأمم وملايين المسحوقين من البشر. هؤلاء ينخرطون في العدمية الفلسفية لما بعد الحداثة: كل شيء نسبي؛ الحقوق والأخلاق والمبادئ والقيم والالتزامات الإنسانية. في سوق نخاسة الضمير يجوز الانقلاب على كل شيء. د. علي محمد فخرو