بعد صدمة تدمير الهياكل الإرتكازية للعراق خلال حرب عام 1991، جاءت صدمات الحصار والحظر الدولي الشامل، وأعقبها الاحتلال عام 2003 وصدمات الفوضى والنهب وتدمير الممتلكات العامة وتعذيب الأسرى والمفخخات والمذابح الطائفية وحملات التهجير... هذا هو "مبدأ الصدمة" الذي يطبقه نظام رأسمالي جديد تسميه المفكرة الكندية ناؤمي كلاين "رأسمالية الكوارث". ويمثل التعذيب القاسم المشترك بين جميع هذه الصدمات، وهو ليس مجرد أداة لإخضاع العراقيين، بل هو المنطق الداخلي لـ"رأسمالية الكوارث" التي يقوم عملها على التدمير وإعادة البناء. وتتابع المفكرة الكندية في كتابها الجديد، "مبدأ الصدمة"، عمليات التعذيب داخل العراق، وفي مراكز تطوير أدواته ووسائله في الجامعات وشركات الأعمال في الولايات المتحدة. والتعذيب هو "الاستجواب القسري"، حسب التعريف المتداول في وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه". وتُستخدم في التعذيب مجموعة تقنيات صمّمها أكاديميون أميركيون لوضع السجناء في حالة ارتباك وتحطم عميقين، وفق ما تسميه "سي آي إيه" في دليلها "مصادر المقاومة". يتمُ ذلك عن طريق تمزيق علاقات السجناء بالعالم المحيط، وشلّ قدرتهم على إدراك ما يجري حولهم. في البداية يجري تجويع الحواس عن طريق تغطية الرؤوس بقلنسوات (كتلك التي استخدمت مع سجناء معتقل أبو غريب)، وبسد الآذان وتقييد الأطراف، ثم يُقصف الجسد بوابل من المحفزات المستثيرة، كالأضواء الخاطفة، والموسيقى المدّوية، والضرب. هدف هذه العمليات "تنعيم" السجناء، وإطلاق إعصار في الدماغ يحطم عالمهم الداخلي فيستسلمون لما يريده المحققون منهم. وتصف ناؤمي كلاين كيف استُخدمت أساليب التعذيب ميدانياً لخلق صدمة جماعية لدى العراقيين. مهدّت لذلك أقسى عملية حصار وحظر شاملين في القرن العشرين استغرقت فترة 13 عاماً، ثم استُهلت حرب عام 2003 بتسريب تقارير مهولة إلى أجهزة الإعلام حول خطط ضرب العراق بأسلحة فتاكة مماثلة في الحجم والتأثير للسلاح النووي، كالقنبلة التي أطلق عليها اسم "أم القنابل". وراهن القائمون بالتعذيب على أكثر الأسلحة فتكاً، وهي مُخيّلة الضحايا الذين يتأثرون بمرأى أداة التعذيب أكثر ممّا يتأثرون باستخدامها. وتستعيد المفكرة الكندية في كتابها بدء العمليات الحربية التي استهلها الغزاة بقطع جميع وسائل تلقي المعلومات عن السكان، حيث تم قصف وزارة الإعلام، ومحطات الإذاعة والتلفزيون، وتدمير مقاسم الهاتف... أي المواقع الحيوية التي لم يتوقف ضربها بالقنابل منذ بدء العمليات الحربية صبيحة يوم 28 مارس وحتى الثاني من أبريل. كما تم في لحظات تدمير سائر محطات الكهرباء، وأبقي خمسة ملايين شخص من سكان العاصمة العراقية في ظلام دامس. وكالسجناء في زنزانات "سي آي إيه" المظلمة، حوصر سكان بغداد في منازلهم، وفقدوا وسائل التخاطب فيما بينهم، أو سماع أو رؤية ما يجري في الخارج. وكما يُجرّد السجناء عند التعذيب من ملابسهم وحاجياتهم الشخصية التي تملك معنى مقدساً كالقرآن، أو عاطفياً كصور أطفالهم، جُرِد المواطنون من مقتنياتهم العامة، ورموز هويتهم الوطنية، وشواهد ذاكرتهم الجماعية. ورغم وحشية القصف الذي دمّر الهياكل الارتكازية للخدمات، فقد كان أقل إثارة لهلع السكان من رؤية شواهد تاريخهم تُحمل على الشاحنات وتختفي. المكتبات العامة، والمتاحف، والجامعات، وأرشيف الدولة، وملفات الأمن والخارجية والنفط، وكل ما يمثل سيادة أي دولة... أحرقت أو نهبت أو وضع الغزاة وأعوانهم اليد عليها علانية. وتورد كلاين تصريحات مسؤولين كبار في سلطات الاحتلال تبين كيف تلاقت مصالح اللصوص المحليين والأجانب في نهب وتدمير العراق. "بيتر ماكفرسن"، كبير المستشارين الاقتصاديين لحاكم الاحتلال بول بريمر، ذكر أنه "لم ينزعج لمرأى نهب ممتلكات الدولة، كالسيارات والشاحنات ومعدات الوزارات المختلفة"، فالأمر "بالنسبة له كمسؤول أساسي عن العلاج بالصدمة الاقتصادية، كان يعني تقليص حجم الدولة، وخصخصة ممتلكاتها، وبالتالي فالناهبون إنما أعطوه انطلاقة البدء بالعمل فحسب". وذكر ماكفرسن أنه رأى في النهب "الخصخصة تحدث بشكل طبيعي"! والنهب بالنسبة لجون أغريستو، مدير برنامج إعادة بناء التعليم العالي، "مغامرة لا مثيل لها... لإعادة صنع نظام التعليم العالي في العراق من الأساس". وذكر أغريستو أن تجريد الجامعات ووزارة التعليم من ممتلكاتها "يقدم الفرصة لانطلاقة نظيفة... ولتجهيز مدارس العراق بأفضل المعدات الحديثة"! وطالما كانت المهمة الرئيسية في تقديره وتقدير كثير من مسؤولي الاحتلال "خلق شعب... فإن كل ما بقي من الدولة القديمة كان سيعرقل العمل". ويذكر جون أغريستو الذي شغل سابقاً منصب رئيس كلية "سانت جون" في ولاية نيومكسيكو بالولايات المتحدة، أنه لم يكن يعرف شيئاً عن العراق، وامتنع عن قراءة أيّ كتب عنه قبل توليه مسؤولية إعادة بنائه، و"ذلك للحفاظ على الذهن مفتوحاً أكثر ما يمكن"! وتُعلق ناؤمي كلاين: "لو كلف أغريستو نفسه مهمة قراء كتاب أو كتابين عن العراق "لأعاد النظر بفكرته عن الحاجة لإزالة كل شيء والبدء من جديد... وكان سيعلم، على سبيل المثال أن العراق امتلك في الماضي أفضل نظام للتعليم في المنطقة، وأعلى معدلات للتعلم في العالم العربي، وأن نسبة المتعلمين في العراق بلغت عام 1985 أكثر من 89%، في حين كانت نسبة الأمية في ولاية نيومكسيكو التي جاء منها أغريستو تبلغ 46%"! وإذا كان صحيحاً اعتقاد ناؤمي كلاين بأن محاولات محو ذاكرة العراقيين مؤامرة، فإن قوى عدة، طائفية وإثنية وعرقية وإقليمية ودولية، ساهمت فيها وعملت على إعادة كتابة قصة البلد عن طريق اقتطاع أقسام من الذاكرة، وهندستها لخلق ذاكرة مزيفة، وانتقاء أجزاء من الواقع وجعلها الواقع كله. ورغم اختلاف حسابات وأهداف هذه القوى، فإنها جميعاً لم تدرك أبعاد العملية، ولا النتائج المترتبة عليها. لقد ضُرب العراق، حسب الكاتبة الكندية "بكل أسلحة الصدمات، باستثناء القنبلة النووية، مع ذلك لا شيء أمكنه إخضاع هذا البلد. لقد فشلت التجربة". وذاكرة الشعوب جواهر تتجوهر بالنار، وهل هناك برهان على ذلك أسطع من المقاومة المسلحة التي استعادت بسرعة قياسية تقاليد قرن من النضال ضد المستعمرين. ولا يمكن تصور قوة المقاومة من دون معرفة ظروفها المحلية والإقليمية المعقدة، وحجم قوات المرتزقة التي كبّدتها المقاومة العراقية، وفق صحيفة "نيويورك تايمز" 900 قتيل وأكثر من 12 ألف جريح. ولا تمثل جريمة قوات أمن شركة "بلاك ووتر" التي قتلت وجرحت في الأسبوع الماضي عشرات المواطنين المدنيين، سوى النزر اليسير الظاهر للعيان من جرائم المرتزقة. ويبلغ عدد المرتزقة الذين يُطلق عليهم اسم "المتعهدين" أو "المقاولين"، 120 ألف مسلح، وفق وكالة "أسوشيتد بريس". وهذا يعادل في الحجم القوات الأميركية ذاتها، فيما يزيد عدد المرتزقة البريطانيين عن ثلاثة أضعاف القوات البريطانية الرسمية. وقد توسعت نشاطات المرتزقة من العمل في البداية كقوة حماية لمسؤولي سلطات الاحتلال، إلى المشاركة الفعلية في العمليات الحربية، وتوفير وتدريب المجندين لقوات الاحتلال النظامية، واستجواب الأسرى، وأعمال التجسس والترجمة، وحتى تجهيز قوات الاحتلال بالوقود والمؤونة وصيانة العربات العسكرية والمعدات.